كتب الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة” معلقاً على ارتفاع أسعار الدولار: يهتم أصحاب الأعمال والتجار وبعض المواطنين بالارتفاع الذي طرأ مؤخراً على سعر صرف الدولار في السوق السوداء للنقد الأجنبي، وصار كل منهم يفسر هذا الارتفاع بطريقته الخاصة.
وقد قلل بعضهم من أهميته بينما يبدي البعض الآخر تخوفا كبيراً من بداية جديدة لارتفاع سعر الدولار وأن الوضع يندر بالمزيد من الارتفاع في سعره الذي لامس حاجز الستة ديناران.
ولكن في الواقع مسألة سعر الصرف وضرورة إصلاحه لم تحل في أي وقت من الأوقات منذ قيام المجلس الرئاسي بفرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي في عام 2018 فقد كانت كل الإجراءات التي اتخذت حيال مسألة سعر الصرف لم تتجاوز كونها مسكنات، وكانت بعيدة عن السياسة الاقتصادية الحصيفة التي تراعي خصوصية الاقتصاد الليبي، والأوضاع غير المستقرة التي تمر بها البلاد.
وفي تقديري، ما دامت السوق السوداء تلعب دوراً في تمويل أي نشاط اقتصادي، ويلتجئ إليها التجار قبل الأفراد لتمويل احتياجاتهم من النقد الأجنبي، ويعتمدون أسعارها في تحديد أسعار السلع المستوردة، فهذا يعني أن سياسات سعر الصرف التي اتبعت والإجراءات التي يعمل في ظلها القطاع المصرفي كانت بعيدة عن الرشد وجانبها الصواب في الكثير من أوجهها، وإن حدث انخفاض في هامش ربح المضاربين في هذه السوق.
لقد ضيع القائمون على مؤسسات الدولة والحكومة المعنيين بصنع القرار، فرصة كبيرة خلال عامي 2017-2018 عندما أجمعت كل الأطراف ذات العلاقة على حزمة السياسات الاقتصادية، التي استهدفت تحقيق إصلاح اقتصادي حقيقي في ذلك الوقت، من خلال تطبيق السياسات التي تضمنها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الذي أعدته لجنة فنية من الخبراء، عرفت بلجنة العشرين، وقام بإثرائه عدد من أعضاء مجلس النواب ومجلس الدولة، من ذوي الاختصاص، في ذلك الوقت.
وللتاريخ فإن الذي عرقل تطبيق البرنامج كان الحكومة العاملة في ذلك الوقت، والتي تلكأت في تنفيذ السياسات المصاحبة الموجهة لاصلاح المالية العامة ودعم المحروقات، والتي كان مصرف ليبيا المركزي يعتبرها شرطاً ضرورياً للمضي قدما في اصلاح سعر الصرف وصولاً إلى سعر صرف توازني للدينار الليبي في مواجهة العملات الاجنبية؛ فلا تم اصلاح سعر الصرف ولا طبقت الاصلاحات الاخرى التي تضمنها البرنامج ومع ذلك فقد نجحت الحكومة في تمرير سياسات افضت إلى توفير التمويل اللازم للانفاق العام، في استخدام خاطئ لسياسة سعر الصرف، وكان ذلك، في البداية، من خلال فرض ضريبة على سعر الصرف عام 2018، تم اجراء تخفيض رسمي لسعر صرف الدينار الليبي عام 2021.
وأصبح المصرف المركزي في وضع صعب عندما فقد المرونة الكافية في معالجة العجز في ميزان المدفوعات وتوفير السيولة اللازمة الحكومة، بعد التخفيض الأخير الذي قام به في القيمة التعادلية للدينار الليبي بوحدات حقوق السحب الخاصة، واقرار سعر يبتعد كثيراً عن السعر التوازني المنشود، وربما اضطر مجدداً لفرض قيود كمية على النقد الاجنبي مما سيزيد المشهد تعقيداً.
وخلال الفترة، لم تنخفض الأسعار في السوق، كما يروج لذلك البعض، ولم ينتعش الاقتصاد الليبي، بل شهد ركوداً تضخميا، ينكره البعض، عززته جائحة كرونا والحرب الاوكرانية الروسية، ولم تحل مشكلة السيولة حل جدري، باستثناء ما تمتع به التجار من مرونة وأريحية في فتح الاعتمادات، ووصل الانفاق العام إلى أرقام قياسية، بل إن الدين العام تزايد وتراكم، وشهد ميزان المدفوعات عجزاً لعدم كفاية إيرادات النقد الأجنبي التي تورد لمصرف ليبيا المركزي في مواجهة مصروفاته، وهاهي السوق السوداء للنقد الأجنبي تنشط مجدداً، وبين تقرير صادر عن البنك الدولي، رغم تحفضنا على الكثير مما يعرضه من مؤشرات حول الاقتصاد الليبي- بين أن متوسط دخل الفرد قد شهد انخفاضا فيما بين عامي 2011 و 2020 بنسبة 50 %. هذه الموشرات مجتمعة تشير إلى أن كل الإجراءات الاقتصادية التي إتبعت خلال الفترة لم تكن موفقة، وأنه لا خيار أمام السلطات إلا اللجوء إلى تطبيق السياسات التي أوصى بها برنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي، المنوه عنه، والذي يتضمن سياسات نقدية ومالية وتجارية متكاملة وفقاً لمصفوفة تتضمن أولويات في التطبيق واطار زمني للتنفيذ.
وسيستمر الاقتصاد الليبي يواجه الصدمات، وحالة عدم الاستقرار، طالما ظلت إيرادات النفط المصدر الوحيد للدخل، واستمرت مؤسسات الدولة المعنية في حالة انكار لضرورات إعادة الهيكلة والإصلاح الاقتصادي الشامل، واكتفت بجرعات من المسكنات، ناهيك عن الصراع والانقسام القائم بينها، في ظل وجود حكومتان.