“زرموح” يتحدث عن الركود الاقتصادي أسبابه وتداعياته.. إليكم التفاصيل

1٬211

أوضح أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية الليبية أ.د. “عمر عثمان زرموح” حول الركود الاقتصادي قائلاً : اقتصادياً يمكن تعريف الركود الاقتصادي بلغة مبسطة قدر الإمكان بأنه الحالة التي يبقى فيها الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي كما هو دون نمو ولفترة طويلة أو أنه ينمو ولكن ببطء شديد (أي بالكاد ينمو)، فإذا انخفض هذا الناتج فيوصف الاقتصاد بأنه في حالة كساد وليس مجرد ركود، ويقصد بكلمة الحقيقي أن هذا الناتج لا يتأثر بالأسعار وبالتالي فتغيره يعد تغيراً حقيقياً دون أي خداع نقدي، كما يقصد بالفترة الطويلة تلك الفترة التي تقاس بالسنوات لا بالأسابيع أو الأشهر على أساس أن الفترة القصيرة هي تلك التي لا تزيد على سنة واحدة.

ودون الدخول في تفسير معنى كلمتي (المحلي، الإجمالي) يمكن القول في إطار هذا الموضوع إن أهمية هذا الناتج تكمن بالدرجة الأولى في أنه يساوي الدخل (أي الدخل المحلي الإجمالي الحقيقي). ومن المتعارف عليه أن الدخل يؤثر على الاستهلاك زيادة وانخفاضاً الذي بدوره يؤثر بنفس الطريقة على مستوى الرفاهية الاقتصادية لأفراد الشعب. ولهذا السبب تولي الدول والحكومات عناية كبيرة لتحفيز زيادة مستوى الناتج الحقيقي لأجل رفع مستوى رفاهية الأفراد، ويلاحظ من هذا المفهوم أن الركود الاقتصادي يكون على المستوى الاقتصاد الكلي وليس على مستوى

أفراد معدودين من التجار أو رجال الأعمال لأن الركود الاقتصادي يصيب الجميع لا فئة دون أخرى، كما أنه يتسم بطول الفترة التي يأخذها فلا يمكننا أن نقول إن الاقتصاد في حالة ركود بسبب اضطرابات مؤقتة قد تنتهي خلال بضعة أسابيع أو أشهر.

أما فيما يخص المخاطر المتوقعة من الركود الاقتصادي على كل من الدول المتقدمة والدول الساعية للنمو قال “زرموح”

قد يرى بعض الاقتصاديين أن الركود الاقتصادي إن حصل في الدول المتقدمة لا يمثل في ذاته أي مشكلة على أساس أن هذه الدول قد حققت درجة عالية من النمو الاقتصادي، وما يعنيه ذلك من تحقق درجة عالية من الرفاهية الاقتصادية للأفراد، وبالتالي فإن تباطؤ النمو الاقتصادي (أي ظهور حالة الركود) يمكن النظر إليها على أنها أمر طبيعي لا يؤثر سلباً على تلك المستويات العالية من الرفاهية وقد يؤثر إيجاباً بشكل بطيء وهو مقبول، ومما يعزز هذا الرأي هو أن معدل النمو السكاني لتلك الدول قد انخفض في بعضها حتى اقترب من الصفر، وهذا يعني أن نصيب الفرد من الناتج الحقيقي (ومن ثم متوسط دخله الحقيقي) لا ينخفض مما يعني أيضاً عدم انخفاض نصيب الفرد من الرفاهية الاقتصادية، هذا التصور يمكن اعتباره مقبولاً من الناحية الاقتصادية إذا لم تصاحبه مشاكل أخرى كبيرة مثل البطالة أو التضخم أو سوء توزيع الدخول.

مُضيفاً: أما في الدول الساعية للنمو فالوضع مختلف تماماً لأن هذه الدول لم تصل بعد إلى تلك الدرجة العالية من الدخل والرفاهية، بل لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أن بعض هذه الدول مازالت تحبو في هذا الطريق وبعضها الآخر لم يعرف طريقه بعد، أضف إلى ذلك أن معدلات النمو السكاني تتميز بأنها عالية لدى معظم، إن لم أقل كل هذه الدول مع تفاوت بينها، وهذا يعني أن هذه الدول تحتاج إلى جهود كبيرة لرفع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لديها بحيث يواكب مستوى الدخل (ومن ثم مستوى الرفاهية) نظيره في الدول المتقدمة وبحيث يغطي بدرجة ملموسة معدل النمو السكاني لدى هذه الدول، عليه فإن الدول الساعية للنمو إذا أصابها الركود الاقتصادي (ناهيك عن الكساد) فإن متوسطات الدخول الحقيقية لأفرادها المنخفضة أصلاً مقارنة بالدول المتقدمة، سوف تنخفض أكثر الأمر الذي يضرب الرفاهية الاقتصادية في مقتل.

وعن وجود ركود اقتصادي في ليبيا من عدمه قال:

كما أشير آنفاً، مشكلة الركود هي مشكلة اقتصادية تقاس على المستوى الكلي ولا تقاس على المستوى الجزئي (الفرد والمنشأة) رغم أن الفرد والمنشأة يتأثران بهذه المشكلة الكلية، تماماً كما هو الحال عندما نتحدث عن التضخم فلا يمكن اعتبار ارتفاع أسعار سلعة معينة أو مجموعة معينة من السلع تضخماً لأن التضخم هو ظاهرة اقتصادية كلية وليست جزئية فهو يصيب الجميع لا فئة دون أخرى، والتفسير المنطقي لمثل هذه المفاهيم في القياس هو أن ما ينطبق على الكل ينطبق على الجزء لكن العكس ليس بالضرورة صحيحاً، وعلى هذا الأساس لا يمكن من الناحية الاقتصادية أن نصف ليبيا بأنها تعاني من حالة ركود اقتصادي بمجرد سماعنا أن هناك عدداً من المحلات التجارية قد أقفلت أو أن أصحابها يشتكون من نقص عدد الزبائن أو نقص حجم مبيعاتهم، ومع ذلك فلا شك أن إقفال بعض المحلات التجارية يحتاج إلى تحليل ومعرفة الأسباب الحقيقية، ولا يمنع من باب الاحتمالات والتكهنات أن يكون ذلك بوادر أو مؤشرات لظاهرة ركود اقتصادي لكن الحكم على وجود أو عدم وجود الركود الاقتصادي في الاقتصاد الليبي يحتاج إلى بيانات عن الناتج المحلي الإجمالي كما يحتاج إلى تفسير واقعي لهذه البيانات في ضوء المفاهيم الاقتصادية وفي ضوء معرفتنا بطبيعة

وظروف هذا الاقتصاد. إن المشكلة التي تواجه الاقتصاديين في دراسة وتشخيص حالة الاقتصاد الليبي كانت منذ عشرات السنوات ولازالت هي مشكلة عدم وجود قاعدة بيانات جيدة ومحدثة تقددم الإحصاءات الضرورية للدراسة

والتحليل ومن ثم التشخيص ووصف العلاج، ولذلك فإنه من المهم أن تسعى الحكومة لتوفير قاعدة البيانات هذه وعلى الأخص نشرة الحسابات القومية التي شهدت إهمالاً كبيراً منذ نحو نصف قرن، فهي حتى عندما تصدر نجدها تصدر ناقصة أي تفتقر لبعض الإحصاءات المهمة، ومتأخرة عن مواعيدها لفترات طويلة.

وأوضح كذلك بأنه لكي نتحقق من وجود أو عدم وجود ظاهرة الركود الاقتصادي في ليبيا في ضوء البيانات الشحيحة المتاحة فيما يلي جدول يبين الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي خلال السنوات (2013-2019) كما يبين الجدول معدل النمو السنوي للناتج (ولا تتوفر بيانات رسمية ليبية لهذا الناتج بعد عام 2019).

الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة (2013-2019) بالأسعار الثابتة لعام 2013 والقيمة بالمليار دينار المصدر: مصرف ليبيا المركزي، النشرة الاقتصادية للربع الثاني لعام 2022 جدول رقم (23).

ومن هذا الجدول يمكن ملاحظة ما يلي:

1- إن الناتج الحقيقي خلال الفترة المذكورة يتذبذب زيادة وانخفاضاً، وفي المتوسط بلغ 86.4 مليار دينار.

2- إذا تجاوزنا تحليل التذبذبات كي لا نبتعد عن محور الموضوع، يمكن القول إجمالًا أن هذا الناتج قد نما في المتوسط بمعدل نمو سنوي قدره 0.7% (أي 7 في الألف) تقريباً وهو معدل نمو منخفض جداً وخاصة إذا قورن بمعدل نمو السكان مما يعني أن متوسط الدخل الحقيقي للفرد في ليبيا كان خلال الفترة المذكورة في حالة انخفاض.

3- عليه وبمفهوم الركود الاقتصادي المذكور سابقاً يمكن القول أن الاقتصاد الليبي قد واجه فعلياً حالة ركود اقتصادي خلال الفترة المذكورة، وهي الفترة التي يعلم كل المتابعين أنها قد شهدت حالات من لإغلاق المتعمد لحقول وموانئ النفط لدوافع سياسية، عليه لا يصبح من المنطق مقارنة هذا الركود أو التباطؤ في النمو الذي حصل عمداً بما حصل أو قد يحصل في الدول الأخرى التي تبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق مزيد من النمو ولكنها لم توفق، لأن ما حصل في ليبيا كان من الممكن تجنبه لو كان هناك رشد سياسي. 

4. بنا ًء على ما تقدم سأطلق على الركود الاقتصادي في ليبيا خلال الفترة (2013-2019) تسمية “الركود الاقتصادي العمدي” أو باختصار “الركود العمدي” لأنه كما ذكر آنفاً ركود حصل عمداً بفعل فاعل وذلك تمييزاً له عن “الركود الاقتصادي” في الدول الأخرى التي تبذل قصارى جهدها من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي.

5. لا شك في أن هيمنة قطاع النفط على هيكل الناتج المحلي الإجمالي وعلى هيكل الصادرات، الذي يقابله ضعف في القطاع غير النفطي، جعل أثر الإغلاق يظهر بشكل مباشر في كل سنة يحدث فيها إغلاق دون أن يعوض ذلك القطاع غير النفطي، لكن ضعف القطاع غير النفطي ليس شيئاً جديداً بل معروف منذ أكثر من نصف قرن ونعلم أن علاجه يتطلب اتخاذ سياسات اقتصادية رصينة طويلة الأجل لتحقيق التنمية المستدامة وهو موضوع آخر. 

6.تشير المعلومات المبدئية إن حالة “الركود الاقتصادي العمدي” في الاقتصاد الليبي قد امتدت بعد سنة 2019 إلى سنة 2022 وكأن هناك إصراراً فعلياً على تجويع الشعب الليبي وإفقاره لأسباب سياسية، وإلا كيف لعاقل أن يقبل إغلاق الحقول والمواني النفطية وفقدان مليارات الدولارات وخاصة أثناء الحرب الأوكرانية التي ارتفعت خلالها أسعار النفط ارتفاعاً كبيراً تجاوزت 100$ للبرميل؟ عليه فإنه بالرغم من عدم ظهور بيانات رسمية ليبية عن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للسنتين الأخيرتين (2020، 2021) فإنه ليس بالمستغرب ولا المستبعد استمرار حالة الركود الاقتصادي العمدي إلى يومنا هذا، ولكن من

الناحية المنهجية لا نعتبر ذلك إلا تكهنات أو فرضيات قابلة للاختبار في انتظار نشر البيانات الرسمية.

كما ذكر “زرموح” خلال حديثه أسباب الأزمة التي يواجهها التجار وأصحاب الأعمال حالياً، قائلًا: 

رغم أن الركود الاقتصادي (العمدي) قد ساد في ليبيا خلال السنوات 2013-2019 إلا أن الشكوى لم نسمعها تتعالي إلا هذا العام (2022) فهل فعلاً هي أزمة الركود المشار إليه آنفاً وقد ضاقت حلقاته حتى أصبحت خانقة الآن أم هي ضجة إعلامية تخدم أغراضاً سياسية أم هي مختلطة؟ دعنا نتعرف عما حصل خلال فترة العامين ونصف العام الماضية. إن الحدث الأبرز خلال عام 2020 كان صدور قرار تغيير سعر الصرف في 16 ديسمبر 2020 على أن يبدأ العمل به اعتباراً من بداية العام التالي (2021) وهو قرار خطير لأنه ينص على تخفيض قيمة الدينار بنسبة 70% دفعة واحدة وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ ليبيا، بل وغير معقولة ولا أظن أحداً من الاقتصاديين قد دعا لها، إن لهذا القرار آثاره السلبية التي لا ينبغي أن يستهان بها بصرف النظر عن حسن النوايا عند متخذي هذا القرار، دعنا نتلمس آثار هذا القرار خلال عام 2021 ولنبدأ بالسياسة النقدية، إن عرض النقود (بالمفهوم الضيق) كان 41 م.د. (مليار دينار) في نهاية عام 2010 ثم تضاعف إلى 123 م.د. في نهاية عام 2020 وهذا يعني أن السياسة النقدية خلال فترة عشر سنوات (2010-2020) كانت سياسة نقدية توسعية بامتيار ذلك أن عرض النقود لم يزد بأكثر من 41 م.د. خلال 59 سنة بينما زاد إلى ضعفيه أي بمبلغ 82 م.د. خلال 10 سنوات (2020-2010) وقد شهدت هذه الفترة الأخيرة معدلات من التضخم وصلت إلى 10% عام 2015 ثم 26% في كل من عامي 2016، 2017 ثم 14% عام 2018 وهي معدلات مؤثرة ومؤلمة للغاية على حياة الأفراد المعيشية.

عليه، لا نستغرب إذا اتجه المصرف المركزي خلال عام 2021 بعد تغيير سعر الصرف إلى انتهاج سياسة نقدية انكماشية لوضع حد لهذا التوسع النقدي رغم أن المصرف لم يعلن عن هذا النهج، ولا يوجد لدينا مجلس تشريعي يعتمد السياسات الاقتصادية في شكل منظومة كاملة (نقدية، مالية، تجارية)، والدليل على انتهاج المصرف المركزي لسياسة نقدية انكماشية هو انخفاض عرض النقود بمقدار 26 م.د. خلال عام واحد من 123 م.د. في نهاية عام 2020 إلى 97 م.د. في نهاية عام 2021 أي بنسبة انخفاض 21% وهي نسبة ليست بالبسيطة (أرقام معدلات التضخم، وأرقام عرض النقود أخذت من النشرة الاقتصادية، الربع الأول، الربع الثاني، لعام 2022 الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي)، أما خلال النصف الأول من عام 2022 فأستطيع أن أحكم على السياسة النقدية لمصرف ليبيا المركزي

بأنها كانت مستقرة (لا انكماش ولا توسع) إذ تذبذب عرض النقود من 97 م.د. في نهاية 2021 (كما ذكر آنفاً) إلى 104، 100، 101 م.د. في نهاية كل من الأشهر 1، 2، 3 بالتوالي عام 2022 ثم إلى 103، 99، 99 م.د. في نهاية كل من الأشهر 4، 5، 6 بالتوالي من نفس العام 2022 أي أن عرض النقود كان يتذبذب حول القيمة 100 خلال النصف الأول من هذا العام 2022 ولم يبتعد عنها بأكثر من 2.4 مليار دينار (مقدار الخطأ المعياري)، ويمكن تفسير الانكماش المشار إليه في عرض النقود خلال عام 2021 بأنه كان بسبب قيام المصرف المركزي ببيع النقد الأجنبي بكميات كبيرة (24.5 مليار دولار مقابل 13.1 في عام 2020)، ومع ذلك فمبيعات النقد الأجنبي عام 2021 لم تكن أعلى من مبيعاته عام 2019 (24.6 مليار دولار)، لكن الاختلاف بين سنتي 2019، 2021 هو أن هذه الأخيرة كان سعر الدولار مرتفعاً أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل ذلك وأصبح الدينار رخيصاً جداً (بعد أن فقد 70% من قيمته)، وأعتقد أن هذا هو السبب الرئيس في انخفاض عرض النقود بمبلغ 26 م.د. كما ذكر آنفاً. ولتوضيح هذه النقطة افترض أن سعر صرف الدولار 4.5 د.ل. فتكون قيمة ما باعه من النقد الأجنبي خلال العام 2021 نحو 110 م.د. تقريباً (=24.5×4.5) بينما لم يصرف منها على أبواب الميزانية سوى 86 م.د. والفرق هو 24 م.د. يعادل تقريباً الانخفاض في عرض النقود. ويمكن تحليل هذا الانخفاض على أنه 8 م.د. من العملة في التداول لدى الجمهور + 16 م.د. من الودائع تحت الطلب.

قال أيضًا: في هذا السياق يمكنني القول إن ما قام به المصرف المركزي يشبه ما يعرف بعمليات السوق المفتوح

open market operations التي تطبقها المصارف المركزية عادة ببيع الأوراق المالية إذا أرادت تقليص عرض النقود، لكن في ليبيا لا توجد سوق للأوراق المالية ذات كفاءة يعتمد عليها، فتكون عملية بيع النقد الأجنبي

عوضاً عن الأوراق المالية، والنتيجة واحدة وهي تقلص عرض النقود، قد يقول قائل إن المصرف المركزي مجبر على بيع النقد الأجنبي لمن يطلبه بالسعر الرسمي الذي

قرره دون نية منه لتقليص عرض النقود، وهذا قد يكون صحيحاً لكن السياسة النقدية الانكماشية كانت في عام 2021 واقعاً أكدته الأرقام بصرف النظر عن النوايا، علاوة على أنه حتى إذا كان المصرف المركزي قد خطط لذلك فمن حيث المبدأ ليس من الخطأ أن يطبق سياسة نقدية انكماشية (تقليص عرض النقود) عندما يكون هدفه محاربة التضخم، ومن وجهة نظري فإن الخطأ ليس في الفكرة وإنما في أن نسبة التخفيض كانت عالية جداً (123/26=%21) وكان الأولى أن تكون على مراحل لو أمكن ذلك، وإذا انتقلنا للسياسة المالية فمن المعروف أن سنة 2021 لم تعتمد لها ميزانية لا من السلطة التشريعية

ولا مما يعرف بالترتيبات المالية ومع ذلك صرفت الحكومة 86 م.د. كما ذكر آنفاً إن المشكلة في هذا الإنفاق هي أنه كان دون اعتماد من السلطة التشريعية التي أهملت إهمالاً صريحاً في هذا الخصوص (لا اعتماد ميزانية، ولا اعتماد أهداف، ولا اعتماد سياسات مالية ونقدية وتجارية) وبذلك ترك المجال مفتوحاً للحكومة لتتصرف كما تشاء وهو أسلوب ليس صحيحاً ووضع يزيد من الإرباك المالي والإداري. 

وأياً كان وصف ووضع السياستين النقدية والمالية وأياً كان انتقادنا، فإن الحقيقة التي أضحت ماثلة هي قيام المصرف المركزي بعملين كبيرين مؤثرين جداً هما: ( أ ) تخفيض قيمة الدينار بنسبة 70% وبدأ تطبيقه من بداية العام2021

(ب) تخفيض عرض النقود بمبلغ 26 م.د. وبنسبة 21% خلال نفس العام 2021، وبعد قرار تعديل الصرف في 16 ديسمبر 2020 لم يصدر أي قرار آخر بتعديل سعر الصرف حيث بقي السعر الرسمي ثابتاً (بوحدات حقوق السحب الخاصة SDR) إلى اليوم (2022/08/27)، وهنا تجدر الملاحظة أن ارتفاع سعر صرف الدولار لدى مصرف ليبيا المركزي ليس قراراً من المصرف بل نتيجة لقوى العرض والطلب في السوق العالمية، ويناظر ذلك انخفاض في بعض العملات الأخرى مثل اليورو والجنيه الإسترليني. أما تقليص عرض النقود فهو عملية بدأت مع بداية العام 2021 ثم توقفت مع نهايته حيث انخفض عرض النقود، كما ذكر آنفاً إلى 97 م.د. وبعد ذلك، خلال النصف الأول من عام 2022، لم ينخفض عن هذه القيمة كما أشير، إن أثر هذا الانخفاض في عرض النقود هو تقلص القدرة الشرائية لدى الجمهور (شركات ومؤسسات وأفراد) الأمر الذي أثر سلباً على الطلب على السلع والخدمات (على المستوى الجزئي) ومن ثم على الطلب الكلي aggregate demand الذي أتصور أن منحناه، تحت هذه الظروف، قد انتقل بكامله نحو اليسار محدثاً حالة من عدم التوازن في الاقتصاد على أساس أن العرض الكلي من السلع والخدمات قد بقي على حاله التي كان عليها يتغذى من الناتج غير النفطي والواردات.

إن حالة عدم التوزان هذه تعني وجود فجوة بين العرض والطلب الكليين (وينعكس ذلك أيضاً بدرجات متفاوتة على المستوى الجزئي لدى مختلف المتعاملين من تجار وأصحاب أعمال أفراداً وشركات) وهي حالة لا يمكنها أن تبقى ساكنة بل هي في الواقع تعبر عن معركة (أي تفاعلات قوية بين قوى العرض والطلب) ولا مفر من أن تسفر هذه المعركة عن بعض الضحايا، وهؤلاء هم التجار وأصحاب الأعمال الذين ليست لديهم القوة الاقتصادية للدفاع عن وجودهم في السوق، إن هذه التفاعلات هي التي تؤدي إلى خفض الأسعار إلا إذا تدخلت عوامل أخرى كما سوف يشار إلى ذلك.

هل الركود العمدي كان تضخمياً؟

نعم كان تضخمياً لكن معدلاته لم تكن منتظمة أو شبه منتظمة كما يحدث في الدول المتقدمة التي أصابها

الركود التضخمي، الحقيقة هي أن التضخم الذي حصل خلال فترة الركود العمدي كان تضخماً مضطرباً فقد ارتفع في البداية حيث وصلت معدلات التضخم، كما ذكر سابقاً، إلى 10% عام 2015 ثم 26% في كل من عامي 2016، 2017 ثم 14% عام 2018 وهي معدلات تضخم جنونية، لكن بعد إصدار المجلس الرئاسي لقراره رقم 1300 في سبتمبر 2018 بشأن فرض رسوم على مبيعات النقد الأجنبي فقد خفف هذا القرار من حدة ارتفاع معدل التضخم في الربع الأخير من العام، ثم خفض معدل التضخم في عام 2019 ليصبح سالباً عند (-%2.2). أما في عام 2020 فقد توقف العمل بهذا القرار نتيجة لإيقاف بعض حقول وموانئ النفط في يناير وما تبع ذلك من تداعيات وصل في أواخر العام إلى حجز إيرادات النفط من قبل المؤسسة الوطنية للنفط. ومحصلة كل ذلك في جانب الأسعار أن كان معدل التضخم منخفضاً عند (1.4%). وفي عام 2021 وفي ظل عدم اعتماد ميزانية ورغم إنفاق 86 م.د. على أساس نسبة 12:1 كما ذكر سابقاً إلا أن انخفاض عرض النقود المذكور سابقاً قد ساهم في كبح جماح التضخم عند 2.

8%، وأما خلال النصف الأول من هذا العام 2022 الذي شهد استقراراً في العرض النقدي كما ذكر آنفاً فقد كانت محصلته معدل تضخم عند 5.1% وهومعدل ليس

بالجيد لكنه في تقديري لا يدعو للتشاؤم. وخلاصة هذا الموضوع هو أن هذا الركود تضخمي مضطرب بسبب الأزمات الاقتصادية المفتعلة (أو العمدية) فقد ارتفعت الأسعار ارتفاعاً كبيراً جداً خلال السنوات الأربع الأولى من فترة الركود لكنها بقيت هناك مرتفعة ولم تنخفض إلا مرة واحدة في عام 2019 انخفاضاً على استحياء.

هل يجب على المصرف المركزي أن يقيد التحويلات للخارج وهل يجب عليه تخفيض سعر الدولار؟

إذا كانت أزمة التجار وأصحاب الأعمال الحالية قد نجمت عن تحويلات النقد الأجنبي للخارج لاستيراد السلع والخدمات، فهل يجب على المصرف المصرف المركزي تقييد هذه التحويلات؟ وللإجابة عن هذا السؤال أعيد للذاكرة أن الهدف الأساس لقرار تعديل سعر الصرف في ديسمبر 2020 كان تحرير الدينار بحيث يباع النقد الأجنبي بالسعر الذي يحدده المصرف المركزي لكل من يطلبه وفق الإجراءات القانونية. لذلك فأي تقييد لتحويلات النقد الأجنبي سيؤدي قطعاً لعودة السوق السوداء ثانبة ويكرر

كل مآسيها، عليه فإن سياسة القيود الكمية (على الواردات وعلى تحويلات النقد الأجنبي) لا تصلح، كيف لعاقل في ظل سياسة تجارية تقضي بفرض قيود كمية، أن يطلب التحرر من هذه السياسة وعندما يتحرر يطلب التقييد؟ إن الخطأ لم يكن في انتهاج سياسة نقدية انكماشية للحد من التوسع النقدي الجنوني الذي حدث خلال السنوات الأولى من فترة الركود العمدي حتى عام 2018 بل الخطأ يكمن في أن هذه السياسة جاءت صادمة (تماماً كما كان قرار تخفيض قيمة الدينار صادماً) فتقلص عرض النقود في شكل دفعة واحدة (26 م.د. بنسبة %21) وفي سنة واحدة (2021) ولم تكن متدرجة بحيث لا يشعر بها إلا القليلون وبحيث تعطي فرصة لضبط السوق market adjustment من خلال تفاعلات هادئة بين العرض والطلب. في جانب آخر هناك من ينادون بتخفيض سعر صرف النقد الأجنبي (الدولار مثلاً)، وهؤلاء إنما يدعون لزيادة العرض الكلي من خلال زيادة الاستيراد لكن ذلك لن يؤثر في رفع مستوى الطلب الكلي وإعادته لوضعه السابق، وإنما سوف يؤدي إلى زيادة العرض الكلي مما يؤدي إلى الوصول إلى نقطة التوازن عند مستوى سعري أقل وهو جيد كما يبدو للوهلة الأولى، إن المشكلة في هذا المقترح هي عدم الانتباه إلى العجز في ميزان المدفووعات الذي تؤدي إليه مثل هذه السياسة، لقد أوضحت النشرة الاقتصادية لمصرف ليبيا المركزي للربع الثاني لعام 2022 الجدول رقم (30) أن احتياطيات النقد الأجنبي لديه قد عانت من عجز خلال كل من السنوات 2019، 2020، 2021 وأن الفائض المتحقق خلال النصف الأول من عام 2022 كان في حدود 1.9 مليار دولار فقط وهو بالكاد يغطي العجز الحاصل سنة 2021 لكنه أبعد من أن يغطي عجز السنوات السابقة لها. عليه فإن قضية تخفيض سعر صرف النقد الأجنبي (أي تعزيز قيمة الدينار بوحدات حقوق السحب الخاصة) لا ينبغي من الناحية الاقتصادية أن تتبع في ظل عجز ميزان المدفوعات. فإذا أريد تخفيض سعر الصرف فيجب قبل ذلك تأمين عدم المساس بحقول وموانئ النفط بل وتطويرها وحل مشاكلها لغرض زيادة الإنتاج والتصدير وخاصة في الأوقات التي ترتفع فيها أسعار النفط لا القيام بعكس ذلك على النحو الذي رأيناه واقعاً مشاهداً.

وأردف قائلًا: إن حل الأزمة التي يوجهها التجار وأصحاب الأعمال، بالإضافة إلى ما تقدم ذكره، ينبغي أن يتجه إلى

تحفيز الطلب الكلي من خلال نشر السلام والأمن أولاً ذلك أنه في ظل الحروب والفوضى لا تروج إلا تجارة التهريب ولا ينتعش إلا الفساد المالي والإداري، ولن يتحقق أي تقدم للاقتصاد. كذلك يكون تحفيز الطلب الكلي من خلال السياسات الاقتصادية الرصينة وهي ليست غائبة عن الاقتصاديين لكن في ظل التوترات السياسية

والأمنية والانقسامات السياسية لن يزدهر أي اقتصاد.

هل يجب مواجهة الأزمة أم التعايش معها وكيف؟

لقد ذكرت سابقاً جملة من الحلول والانتقادات الموجهة لبعضها، وفيما يلي بعض النقاط المكملة حول

كيفية مواجهة الأزمة أو التعايش معها، إن مسئولية مواجهة الأزمة يجب أن تقوم كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية والتجار وأصحاب الأعمال بواجباتهم، إن الدولة ممثلة في السلطتين التشريعية والتنفيذية، تقع عليها واجبات ومسئوليات تجاه سلامة الحياة الاقتصادية للمواطنين سوا ًء كانوا عائلات أم أصحاب أعمال، وتجاه تقدم الاقتصاد وتطوره، كما أن لأصحاب الأعمال واجبات تجاه أنفسهم يمكنهم إن قاموا بها أن يتجنبوا الفشل والخروج من السوق أولاً: مسئوليات السلطتين التشريعية والتنفيذية.

1- لا يقبل من السلطة التشريعية أن تقف موقف المتفرج أحيانًا والمعرقل لمسار الحياة الاقتصادية أحيانًا أخري كما نشاهد ذلك عملياً من خلال التخلي عن واجباتها في اعتماد ميزانيات عدة سنوات وعدم اعتمادها لأهداف السياسات الاقتصادية، لقد كان ولا زال عليها أن تكون حاضرة باستمرار وبقوة في ميدان المعركة الاقتصادية من أجل الوطن والمواطن، يجب عليها عدم السماح بأي إغلاق لموانئ وحقول النفط تحت كل الظروف حتى لا تخلق أزمات أول من يضيع ضحيتها ذوو الدخل المحدود، وعليها أن تجعل هذا القطاع خارج أي خلافات سياسية، كما عليها أن تعتمد الميزانية قبل بدء السنة المالية محددة بذلك أهدافها ومصادر تمويلها وطرق إنفاقها في إطار سياسات مالية ونقدية وتجارية، وسياسات استثمار واستخدام، واضحة المعالم وأن تحاسب الحكومة على آدائها، كما يتعين على السلطة التشريعية أن تعمل على توحيد كل المؤسسات وخاصة المصرف المركزي. 

2- يجب إبعاد شبح الحرب ويجب نشر الأمن إذا أريد للنشاط الاقتصادي أن يزدهر لأن التوتر السياسي حتى

إن لم ينتج عنه حرب هو تهديد بها وهو مؤثر سلبي على الطلب الكلي. 

3- يجب على الحكومة أن تقترح الميزانية وأهدافها والسياسات الاقتصادية اللازمة لتحقيق الأهداف، ثم تلتزم

بالتنفيذ وفق قانون الميزانية، وبذلك تكون مسئولة أمام السلطة التشريعية على تحقيق الأهداف الاقتصادية المعتمدة لها، قد يكون هذا الوضع مثالياً أو غير واقعي حالياً لكن هذا ما يجب أن نسعى له إذا أردنا أن نتجنب، أو على الأقل أن نحد من، الأزمات الاقتصادية المحلية والخارجية على مختلف أشكالها وتداعياتها على المواطنين بكل فئاتهم (قطاع عائلات، قطاع أعمال).

4- أما المصرف المركزي فغني عن البيان أنه، رغم كل الاختصاصات المخول بها وفق قانون المصارف فإنه، من جهة أخرى، ملزم بالتقيد بالسياسة الاقتصادية المعتمدة وفق قانون الميزانية ووفق التشريعات النافذة، وأن عليه أن يكيف سياسته النقدية في هذا الإطار.

ثانياً: نصائح لأصحاب الأعمال في مواجهة الأزمة الحالية فالنصيحة لأصحاب الأعمال هي أن يحاولوا الصمود في السوق قدر الإمكان وذلك من خلال القيام بالآتي: 

1. أن تكون لديهم أنظمة محاسبية جيدة فقد علمت أن هناك من يهمل هذا الجانب، فيقوم بحسابات ارتجالية

تؤدي به، على سبيل المثال، أن يظن من خلالها أنه قد حقق أرباحاً فيقوم بتوزيع جزء من رأسماله ظناً منه أنه يوزع أرباحاً. هذا ولا يخفى أهمية القوائم المالية في المساعدة على اتخاذ القرارات السليمة.

2. القيام بتخفيض هامش الربح قدر الإمكان بما يعزز المكانة في السوق. 

3. كما يتعين على أصحاب الأعمال أن يتفهموا ويطبقوا قاعدة الإغلاق closing rule بأن يواصلوا العمل وألا يغلقوا أعمالهم، في الأجل القصير، إذا أمكنهم أن يغطوا كل التكاليف المتغيرة وجزءاً من التكاليف الثابتة.

4. ألا يسعى صاحب العمل إلى تسريح العاملين لديه حتى لا يخسرهم وخاصة أولئك الذين اكتسبوا الخبرة وصاروا لديه من أهل الثقة، بل الأفضل من ذلك هو أن يتفاوض معهم على تخفيض الأجور بسبب ما يعانيه من خسائر وقد يكون ذلك مؤقتاً ومرهوناً بوجود الأزمة. وهذا قطعاً أفضل للعاملين من البطالة لأن العامل في مثل هذه الظروف من المستبعد أن يجد بسهولة أو بسرعة العمل البديل. 

5. إذا كان صاحب العمل من المستأجرين لبعض العقارات فالأفضل للمستأجر والمؤجر أن يتفاوضاً على تخفيض الإيجار لأن الإقفال يعني ضياع وقت طويل بالنسبة للمؤجر كي يجد مستأجراً جديداً وربما بمبلغ إيجاري أقل، وغني عن البيان أن هذا جيد بالنسبة للمستأجر بما يساهم به في تخفيض التكاليف وتقليل الخسائر ويجعله أكثر قدرة على المنافسة في السوق.