الشريف يكتب مقالًا بعنوان: عودة لموضوع سعر الصرف

256

كتب: إدريس الشريف – وكيل مساعد بوزارة المالية بالحكومة المؤقتة

هل سعر 4.48 دينار مقابل الدولار سعر عادل ومناسب وفق الظروف الحالية للاقتصاد الليبي؟

أثير هذه الأيام جدل كبير حول القرار الذي أصدره المصرف المركزي بتخفيض القيمة الرسمية للدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية، المقومة بوحده حقوق السحب الخاصة SDR وذلك من 0.51 وحدة SDR لكل دينار، إلى 0.15 فقط. ما يعني تخفيض قيمه الدينار الرسمية تجاه الدولار إلى 4.48 دينار لكل دولار.

ومن المعلوم ان القيمة التعادلية للدينار الليبي كانت 2.88 SDR لكل دينار حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي. ونظرًا للظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الليبيون حاليا نتيجة انهيار القوة الشرائية لدخولهم النقدية، فقد كانوا جميعًا في حالة ترقب وانتظار لقرار المصرف المركزي بشأن سعر الصرف، لعل هذا القرار يؤدي إلى تخفيض أسعار السلع خصوصا المستوردة وبالتالي ارتفاع دخولهم الحقيقية وقدرتهم الشرائية بشكل ملحوظ.لكن المفاجأة كانت أن سعر الصرف الجديد للدولار كان أكبر مما يتوقعه الكثيرون، وإن كان أقل من سعر الدولار الحالي في السوق السوداء. وكان التوقع الغالب أن لا يزيد سعر صرف الدولار الجديد عن السعر الذي كان سائدا السنه الماضية بعد تخفيض الرسم الإضافي، والذي طبقه المركزي لجميع الأغراض باستثناء التحويلات الحكومية ومنحه أرباب الأسر. حيث توقعوا أن يبدأ المركزي من حيث انتهى العام الماضي عند سعر 3.65 دينار للدولار.

لكن المصرف المركزي ذكر – وعلى لسان أحد مختصيه – بأنه ليس في استطاعته الدفاع عن سعر يقل عن 4 دينار للدولار في الوقت الحاضر دون اللجوء للسحب من الاحتياطي.

هل فعلا ليس في امكان المركزي القيام بذلك؟

لمناقشة هذه الحجة علينا أن نورد هنا جملة من النقاط البديهية التي يتفق عليها الجميع (المعارضون والمؤيدون لتغيير سعر الصرف) وذلك لكي نخرجها من دائرة الجدل.

• الأولى: أن مجرد التئام مجلس إداره المصرف المركزي في ظل ظروف الانقسام المؤسسي الحالي، وتعثر الحل السياسي وذلك لاتخاذ قرارات تهدف لحل مشكله السيولة وفتح المقاصة وتوفير العملة الأجنبية أمر مرحب به (حتى وإن كان المصرف المركزي هو المتسبب الرئيسي في هذه الأزمة. ونتمنى استمرار الاجتماعات لإنهاء التفرد بالقرارات المتعلقة بالسياسة النقدية.

الثانية: حيث أن مصرف ليبيا المركزي هو المصدر الوحيد للعملات الأجنبية (إيرادات النفط). هذا الاحتكار يجعله يتحكم في كميات العرض والطلب منها. أما بتحديد السعر وتتحدد على أساسه الكمية المطلوبة، أو بتحديد الكمية المعروضة ويتحدد على أساسها سعر السوق. وهذا الامر يؤدي إلى نتيجة مفادها أن قيام المركزي ببيع العملة الأجنبية (دون أي قيود) بسعر أقل من سعر السوق سيؤدي إلى القضاء على السوق السوداء وانخفاض أسعار السلع المستوردة والتي تمثل النسبة الأكبر من سلة استهلاك الأسر الليبية، إضافة إلى حل مشكلة السيولة لدى المصارف، واختفاء الفارق بين الدفع النقدي (الكاش) والدفع عن طريق الصكوك.

الثالثة: إن مسألة توحيد سعر الصرف أمر حيوي وهام للقضاء على باب كبير من أبواب الفساد ومصدر من مصادر الاثراء غير المشروع لأفراد وجماعات (بعضها إجرامي) نتيجة استفادتهم من فروقات الأسعار بسبب حظوتهم أو سطوتهم ونفوذهم.

نعود الآن لنقطه الخلاف الرئيسية وهي عدم تحديد السعر عند مستوى أقل، حتى يكون أثر ذلك واضحًا على مستوى معيشة المواطنين، وهل فعلا ليس في إمكان المركزي الدفاع عن سعر يقل عن 4 دينار؟

للتأكد من هذا الأمر علينا استعراض البيانات التي نشرها المصرف المركزي عن كمية واستخدامات العملة الأجنبية عن السنتين الماضيتين 2018 و2019، بعد قرار فرض رسم إضافي على بيع العملة الأجنبية.

البيانات تفيد بالآتي:

1- بلغت الإيرادات من النقد الأجنبي سنة 2018 مبلغ 24.5 مليار دولار.

في بداية أكتوبر من 2018، سمح المركزي ببيع الدولار لجميع الأغراض بسعر 3.85 دينار للدولار، بعد إضافة الرسم، مع استمراره ببيع مخصصات أرباب الأسر (بقيمه 500 دولار للفرد) وكذلك التوريدات الحكومية بالسعر الرسمي السابق 1.35 دينار للدولار.

2- بلغ إجمالي المبالغ المباعة طيلة عام 2018، مبلغ 19 مليار دولار، حيث تحقق فائض نهاية العام مقداره 5.4 مليار دولار.

3- سنة 2019، بلغت الإيرادات من النقد الأجنبي 20 مليار دولار.

إذا ما أضيف إليها فائض سنة 2018، يصبح المبلغ المتاح للاستخدام 24.5 مليار دولار.

4- بلغت قيمه العملة المباعة لجميع الأغراض سن’ 2019، 22.3 مليار دولار (منها مبلغ 7.2 مليار دولار مخصصات أرباب الأسر و3.9 مليار دولار لمؤسسة النفط، و2 مليار دولار تحويلات حكومية جميعها بالسعر الرسمي السابق بدون الرسم).

5- تم تخفيض الرسم على بيع العملة الأجنبية ليصبح سعر الصرف 3.65 دينار للدولار الواحد اعتبارا من أول أغسطس 2019.

6- تم تحقيق فائض بعد كافة الاستخدامات لهاتين السنتين (بالرغم من بيع جزء هام بالسعر الرسمي) مقداره 3.2 مليار دولار.

التساؤل المطروح هنا هل يمكن القول بعد هذه البيانات أن المصرف غير قادر على الدفاع عن سعر يقل عن 4 دينار دون السحب من الاحتياطي؟ خصوصا بعد إلغاء منحه أرباب الأسر وإلغاء التمييز السعري للحكومة، الأمر الذي سيخفض حتماً الكميات المطلوبة من العملة الأجنبية.

اعتقد جازمًا بأن المصرف المركزي قادر وبسهوله على الدفاع عن سعر يصل حتى عند 3.25 دينار للدولار. آخذا في الاعتبار الطلب الإضافي (غير الطبيعي) على العملة الأجنبية في الاقتصاد الليبي الناتج عن فقدان الثقة في ثبات واستقرار قيمة العملة الوطنية بسبب السياسات النقدية التي اتبعها المركزي، وظروف البلد السياسية والأمنية.

وحسب رأيي – إذا ما كان الأسلوب المراد تطبيقه هو التدرج في تخفيض سعر صرف الدولار – كان عليهم البدء من حيث توقف المركزي العام الماضي عند سعر 3.65 دينار للدولار الواحد، مع التخفيض التدريجي لحين الوصول إلى السعر التعادلي المستهدف والذي يمكن اعتماده عند صندوق النقد الدولي مقابل وحده حقوق السحب الخاصة، وذلك تجنبا لتكرار عمليات إعاده التقييم للأصول والخصوم الأجنبية للمؤسسات السيادية مثل المصرف المركزي والمؤسسة الليبية للاستثمار التي قد تتكرر ربما لأكثر من مره في السنة المالية الواحدة.

ومع تحسن مستويات إنتاج النفط وأسعاره، فإن هذا السعر أكثر من كاف لخلق التوازن الاقتصادي المطلوب -داخليا وخارجيا – إضافة إلى أثره الملموس على زيادة الدخول الحقيقية للأفراد.

ختاماً كل ما تم ذكره يتعلق بوضع استثنائي مؤقت، لا يغني عن اتباع سياسات اقتصادية رشيدة تؤدي إلى إعاده الثقة في عملة البلد الوطنية، وتشجع الاستثمار والتنمية، وتعالج الاختلال الهيكلي الذي يعاني منه الاقتصاد الليبي.

وحتى ذلك الحين فإن لسان حال الكثيرين يقول (كل جغمة تبل الريق) وما لا يدرك كله لا يترك جله.
والله من وراء القصد