كتب: أحمد علي أبو مهارة
محامي ورئيس قسم المنازعات والدعاوى القضائية بمصرف شمال أفريقيا
إن إدارة النظام المالي للدولة تتقرر وفق معايير فنية وأساليب محاسبية محددة ضمن الإطار القانوني للنظام المالي ، والتعليمات الصادرة بمقتضى هذا النظام عن وزارة المالية، فهذه الأخيرة هي المسؤولة عن إدارة الشؤون المالية للدولة، ونظراً للمهمة الشاقة والصعبة لوزير المالية جعلت أساتذة المالية العامة في العالمين العربي والأجنبي يجتهدون في وضع المواصفات التي يجب أن يتحلى بها وزير المالية، حتى دفعت أحدهم للقول يجب أن يكون وزير المالية فظاً غليظ القلب صداعاً، لما لوجود هذا الوزير من أهمية كبرى، بحسبان أنه المحافظ والحريص على مال الأمة، وبحسب نصوص قانون النظام المالي للدولة فإن وزير المالية يمارس الاختصاصات التالية:
1 – الإشراف على إيرادات الدولة ومصروفاتها وعلى كافة شؤون الخزانة العامة ومراقبة دخلها والإنفاق منها بما يكفل صيانة أموال الدولة ومخزوناتها وحسن إدارتها.
2 – الإِشراف على إدارة حسابات الحكومة ومراقبة الشؤون المالية للدولة وتوجيهها وفقاً لأحكام هذا القانون وذلك باستثناء ما تسنده القوانين أو اللوائح إلى سلطة أو جهة أخرى.
3 – اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتحصيل الأموال المستحقة للحكومة واسترداد ما أنفق منها أو تم التصرف فيه بدون وجه حق أو بالمخالفة للقوانين واللوائح.
4 – دراسة مشروع الميزانية العامة وما يرتبط بها من ميزانيات ملحقة أو استثنائية أو اعتمادات إضافية وعرضه على مجلس الوزراء.
5 – اقتراح اللوائح المالية والحسابية وغيرها من اللوائح اللازمة لتنفيذ هذا القانون وإصدار ما يلزم من تعليمات مالية.
- كما أن لوزير المالية في ممارسة اختصاصاته المنصوص عليها في هذا القانون طلب كافة البيانات والإيضاحات اللازمة من أية وزارة أو هيئة أو مؤسسة عامة والاطلاع على جميع السجلات والدفاتر والمستندات وغيرها من الأوراق.
قانون النظام المالي للدولة وضع بنية أساسية توضح كيفية إنفاق المال العام، والرقابة عليه، وتحديد المساءلة القانونية للموظفين ذوي المسؤولية المالية، والعقوبات المترتبة على سوء تصريف المال العام، كما أن هذا النظام يفرض أساليب يجب اتباعها في قيد العمليات المالية وتنظيم الدفاتر المحاسبية. غير أن كل ما ذكر لا يتأتى إلا عبر موازنة عامة تجيزها السلطة التشريعية، ويمكن أن نذكر سببين اثنين لأهمية وجود موازنة عامة للدولة من بين عدة أسباب:
1 – إن نفقات الوزارات والجهات الإدارية الأخرى ستتحدد سنوياً بموجب قانون الموازنة العامة ، الأمر الذي ينتج عنه الحد من الإنفاق المفرط من قبل المسؤولين عن تنفيذ الموازنة العامة.
2 – تسهيل مهمة الرقابة على المال العام بواسطة وزارة المالية والأجهزة الرقابية، وإمكانية كشف المخالفات واتخاذ الإجراءات المناسبة للحد من وقوعها.
ونظراً لتعنت مجلس النواب في اعتماد موازنة الدولة منذ عام 2014م وغياب كامل لدور وزارة المالية في إدارة المال العام يُطرح التساؤل التالي:
كيف يدار المال العام في ليبيا؟
استناداً للفقرة (6) من المادة التاسعة من الاتفاق السياسي الذي ُوقع في مدينة الصخيرات سنة 2015 والتي نصت على اختصاص مجلس الوزراء بوضع وتنفيذ ترتيبات مالية طارئة مؤقتة عند الاقتضاء بعد إجراء المشاورات اللازمة مع مصرف ليبيا المركزي وديوان المحاسبة والجهات الرقابية ذات العلاقة وفق أحكام قانون النظام المالي ، أصبحت إدارة المال العام تتم بواسطة قرارات تصدر عن مجلس الوزراء تخصص فيها مبالغ مالية بأرقام كبيرة دون تبيان لأوجه إنفاقها، والأسباب الداعية لتخصيصها ،وفي حالة التأخر في إصدار قرار الترتيبات المالية يتجه مجلس الوزراء لإصدار قرارات الإنفاق وفق قاعدة الإنفاق (12/1) أو يجري الصرف وتحصيل الإيرادات وفقاً لما كان معمول به في السنة المالية السابقة، والكارثة أن وزارة المالية لا تلتزم بتقديم الحساب الختامي نهاية السنة المالية الذي يبين إيرادات ومصروفات الحكومة، وكان نتاج هذا الأمر ما نقرأه سنوياً في تقارير ديوان المحاسبة، وما سمعناه من المبعوث الأممي السابق غسان سلامة عن (النهب الممنهج).
ونظراً لأن الدولة الليبية كما أوضحنا لا توجد بها ميزانية معتمدة منذ عام 2014 توضح مبلغ الإنفاق الذي يجب أن تتقيد به الحكومة، وإيرادات يتم جبايتها بشكل يومي من مصادر مختلفة فإن إدارة المال العام تتم عبر تحصيل إيرادات الدولة من مصادرها المختلفة والتي يحتل فيها القطاع النفطي مركزاً فريداً ومتنوعاً وباقي الإيرادات موزعة بين الضرائب والجمارك ورسوم الخدمات العامة وإيرادات الاتصالات وتوزيع أرباح مصرف ليبيا المركزي، وعلى عكس النفقات العامة التي ينبغي أن تقيد بقانون الموازنة العامة، فإن تحصيل الإيرادات لا يرتبط بصدور هذا القانون، فالإيرادات العامة يتم تحصيلها بشكل يومي بموجب قوانين صادرة مثل قانون الضرائب والجمارك وغيرها التي حددت من يدفعها وأساليب تقديرها وإدارتها وتتولى الأجهزة الإدارية تحصيل هذه الإيرادات لصالح خزينة الدولة.
نصت المادة (64) من لائحة الميزانية والحسابات والمخازن على ” يجب أن تورد حصيلة الإيرادات التي تتولى الوزارات والمصالح الحكومية جبايتها إلى خزائن وزارة المالية أو إلى مصرف ليبيا المركزي وفروعه يومياً وفقاً لما تحدده تعليمات وزارة المالية ولا يجوز لهذه الوزارات والمصالح أن تستخدم إيراداتها أو أي جزء منها في إجراء أية مدفوعات.
وتحدد بتعليمات من وزارة المالية الحالات التي يجوز فيها الاستثناء من قاعدة التوريد اليومي.
ويجب في جميع الأحوال توريد الإيرادات إذا بلغ الرصيد منها الحد الأقصى المسموح بالاحتفاظ به في الخزائن ولو كان ذلك قبل الموعد المحدد للتوريد” وما يفهم من هذا، أن مهمة وزارة المالية تتمثل وفقاً للقانون في تحصيل الإيرادات وإنفاق النفقات والتوفيق بين عمليات التحصيل وعمليات الصرف المالية، حيث يتجمع لدى إدارة الخزينة بوزارة المالية مختلف أنواع الإيرادات، ومنها تخرج المبالغ اللازمة لدفع النفقات، وتستعين الوزارة في هذا الأمر بمصرف ليبيا المركزي في عمليات التحصيل والصرف، وتعهد إليه بتسلم الإيرادات ودفع النفقات لحسابها إذ أن المصرف المركزي في هذه العملية هو الوكيل المالي للحكومة .
مصرف ليبيا المركزي كصيرفي ووكيل مالي للحكومة.
تحتفظ الحكومة بأموالها لدى مصرف ليبيا المركزي عبر حسابات يفتحها المصرف ، ويقوم بتقديم الخدمات المصرفية لها، وهذه العملية تشبه إلى حد كبير الخدمات التي تقدمها المصارف التجارية لعملائها. ومن بين الخدمات المصرفية التي يقدمها المصرف المركزي للحكومة والجهات الإدارية التابعة لها وفقاً لقانون المصارف رقم (1) لسنة 2005م
1 – مزاولة الأعمال المصرفية المتعلقة بالوحدات الإدارية وتقديم الخدمات المصرفية لها وعليها إيداع أرصدتها فيه ولا يدفع المصرف أي فوائد عن المبالغ والأرصدة المودعة في حسابات الوحدات العامة ولا يتقاضى أجراً عن الخدمات المصرفية التي يؤديها لها.
2 – تعهد الدولة لمصرف ليبيا المركزي بإدارة أذون وسندات الخزانة العامة والقروض التي تعقدها والقيام بخدمتها واستهلاكها وإدارة مساهمتها وتقديم مشورته بشأنها.
3 – للمصرف أن يقدم سلف مالية للخزانة العامة لتغطية أي عجز وقتي في إيرادات الميزانية العامة بالشروط التي يتم الاتفاق عليها بين المصرف ووزارة المالية.
وكصيرفي للحكومة ووكيل مالي لها يقوم المصرف المركزي بحفظ حسابات الوزارات والمؤسسات والمصالح التابعة لها، حيث يتولى قبول الودائع الحكومية وتحصيل الصكوك لمصلحتها ودفع قيمة الصكوك المسحوبة عليها وإجراء الحوالات المالية من الحسابات الحكومية لصالح المستفيدين منها، وتسديد المرتبات وأية مصروفات إدارية أخرى، وأداء المدفوعات الخارجية للدولة، كتحويل رواتب البعثات الدبلوماسية وتسديد رسوم الطلبة وغيرها، وكل ذلك يتم بواسطة الحسابات الحكومية المفتوحة لدى المصرف، غير أن مهمة الإشراف وفقاً لقانون النظام المالي على هذه الحسابات تكون لوزارة المالية ولا يجوز السحب من هذه الحسابات إلا وفقاً للأغراض المعينة لها ، وأيضاً لا يجوز لأي مؤسسة حكومية أن تقوم بفتح حساب لدى المصرف المركزي ألا بعد الحصول على إذن كتابي من وزير المالية ويكون لوزارة المالية الرقابة على هذه الحسابات وما يصرف منها.
وكما أوضحنا سلفاً من أن عملية توريد الإيرادات لا تتقيد بقانون الموازنة العامة للدولة، فإن الإيرادات العامة التي تحصلها الجهات الإدارية يتم توريدها إلى المصرف المركزي تحت إِشراف الوزارة حتى تصبح متاحة لها لدفع النفقات العامة، ولنأخذ مثالاً على أهم إيراد للدولة وهو النفط الذي تتولى المؤسسة الوطنية للنفط والشركات التابعة لها القيام بعملية إنتاجه وتسويقه وتحصيل وارداته عن طريق بيعه وإيداع حصيلة بيعه في حساب الإيرادات بمصرف ليبيا المركزي عن طريق تحويله من مصرف ليبيا الخارجي، ومنها إلى حساب الإيراد العام ليتم تحويلها بعد ذلك إلى الحسابات الأخرى بناء على ميزانية معتمدة ، أو وفقاً للترتيبات المالية كما مر بنا ، وقد بينت لائحة الحسابات الإجراءات والضوابط التي يتم بها توريد بقية الإيرادات للحسابات بمصرف ليبيا المركزي وبدخول هذه الأموال للحسابات يكون لوزارة المالية التصرف في الأموال الموجودة بهذه الحسابات بموجب أوامر صرف حدد قانون النظام المالي ضوابطه.
إن من أهم واجبات وزارة المالية التي تضطلع بها بموجب أحكام القانون المالي للدولة هي الرقابة على الصرف ويكون ذلك بواسطة مراقبين ماليين ومساعدين لهم في كل وزارة من وزارات الدولة ومساعدين يمارسون الاختصاصات التالية:
1 – الإشراف على القسم المالي للوزارة للتحقق من تطبيق القواعد المالية السارية.
2 – تقديم التقارير إلى وزارة المالية عن سير الأمور المالية والحسابية في الوزارة التابع لها.
3 – إن أي وزارة أو مصلحة حكومية لا يمكنها أن تبرم عقداً أو ترتبط بنفقة إلا بعد الحصول على الموافقة من المراقب المالي بحيث تعتبر هذه الموافقة بمثابة شرط قانوني فرضه المشرع لنفاذ أمر الصرف.
ولما كان المال العام يدار من خلال وزارة المالية عبر ما سقناه من نصوص قانونية فكيف يحدث كل هذا الإنفاق المفرط للمال الذي نقرأه في تقارير الديوان السنوية! ولدى الوزارة كل هذه الترسانة القانونية التي تمكنها من القيام بدور كبير في حفظ وصيانة المال العام، ومنع الإنفاق منه بهذه الطريقة المسرفة، إذ هي الرقيب عليه ويدار من خلالها، أم إن الوزارة عجزت عن إدارته للحد الذي تنازلت فيه عن وظائفها لصالح المصرف المركزي؟ ليتحول المصرف المركزي من صيرفي للحكومة إلى مديراً مالياً لها.