كتب الخبير الاقتصادي “محمد أبو سنينة” مقالاً قال خلاله:
يُصِر المؤيدون لسياسة تخفيض سعر صرف الدينار الليبي على هذه السياسة ويُدافعون عنها، ويرونها المخرج لحل المشاكل الاقتصادية في ليبيا، في تجاهل تام لتبعات الاستخدام الخاطئ لهذه السياسة، ورغم السلبيات التي صاحبت تطبيقها موخراً .
هؤلاء لم يهتموا في يوم من الأيام بوضع الإنفاق العام وآثاره على مجمل الأوضاع الاقتصادية ومؤشرات الاقتصاد الكلي، بما في ذلك سعر الصرف، وأن السياسة المالية هي التي تقود السياسة الاقتصادية في ليبيا والأكثر تأثيراً في معدلات النمو الاقتصادي، حتى في حال عدم إعمال أي من أدوات السياسة المالية، سوى التوسع في الانفاق العام، يعتبر سياسة مالية .
يستسهلون تغير كل الأسعار في الاقتصاد، حيث سعر الصرف هو سعر الأسعار، ويتجاهلون أهمية ضبط الإنفاق العام أو وضع سقوف له، وعلاقة الإنفاق العام بعرض النقود !!! ونتيجة لهذه النظرة المحدودة للتفاعل بين متغيرات الاقتصاد الكلي وتأثيرها على مجمل الأوضاع الاقتصادية، فقد تنامى الإنفاق العام ليسجل ارقاماً غير مسبوقة على امتداد تاريخ الاقتصاد الليبي مند اكتشاف النفط وتصديره في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وتنامت معه الدعوة للمزيد من التخفيض في سعر الصرف، كما تدنت انتاجية الإنفاق العام، ولم تعد للسياسة المالية أهدافاً واضحة .
لقد أكّدنا مراراً وتكراراً أن المساس بسعر الصرف، وقيام المصرف المركزي بإقراض الحكومة يشكل مخالفة صريحة لقانون المصارف، و يعتبر خطأً كبيراً، وما كان على الحكومات المتعاقبة والمصرف المركزي الوقوع فيه .
فقد بلغ إجمالي الإنفاق العام خلال الفترة 2018- 2023 ما مجموعه 461.7 مليار دينار ، وبلغ إجمالي الإيرادات العامة، بما فيها الإيرادات النفطية، ما مجموعه 494.675 مليار دينار .
وهنا يرجع الفضل في نمو الإيرادات العامة ووصولها إلى هذا الحد إلى التخفيضات المتتالية في سعر صرف الدينار الليبي، خلال الفترة، فقد قفزت الإيرادات العامة من 22.828 مليار دينار في عام 2020 إلى 134.376 مليار دينار في عام 2022 وبنسبة 488% ، وخلال نفس السنة زادات النفقات العامة بنسبة 242%، خسر خلالها الدينار الليبي 71.6% من قوته ( سعر صرفه ) في مواجهة الدولار الأمريكي .
وقد انعكس تدهور سعر صرف الدينار الليبي في ارتفاع معدل التضخم بنسبة 195% ( من -2.2 ٪ إلى +2.2% ) خلال الفترة 2019 إلى 2023 .
والأنكى أن ميزان المدفوعات شهد عجوزات متتالية خلال الفترة باستثناء عام 2022، بمعني أن التخفيض في سعر الدينار الليبي قد حاد عن الهدف الأساسي الذي يوجه إليه وهو علاج العجز في ميزان المدفوعات، وكل ما ترتب عليه توفير السيولة للحكومة لتمويل الانفاق العام وتضخم الأسعار، وهنا تكمن الخطورة، وأصبح المصرف المركزي في وضع لايمكنه المحافظة على استقرار سعر الصرف ولا حتى الدفاع عن سعر الصرف الحالي المبالغ فيه !!! وقد كتبت في نوفمبر 2021 مقالاً بعنوان : حتى لا يضطر المصرف المركزي إلى تخفيض آخر أشد في سعر صرف الدينار الليبي، عندما اقرت الحكومة العمل بميزانية قدرت بمبلغ 95 مليار دينار في ذلك الوقت ، وها قد وقع ما كنّا قد نبهنا إليه ، إذ قام المصرف المركزي بفرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بنسبة 27% ، بهدف توفير 12 مليار دينار، بموافقة مجلس النواب !!!
كان ينبغي على المنادين بتخفيض سعر صرف الدينار الليبي، توجيه جهودهم ودعواتهم نحو الضغط على الحكومات لتخفيض الإنفاق العام والرفع من كفاءته ومكافحة الفساد وإصلاح المالية العامة، وقد فات عليهم أن جل الانفاق العام يوجه للطلب على النقد الاجنبي، حتى المرتبات التي تشكل البند الأكبر في الانفاق العام ، يلتهمها الطلب على النقد الأجنبي، الذي يولد ضغوط كبيرة على سعر الصرف .
لقد نبهنا في أكثر من مقالة إلى أن المالية العامة في ليبيا هي بيت الداء، عندما صارت الحكومات تنفق بمعدلات اكبر مما يرد اليها من دخل ، وبدون اهداف محددة قابلة للقياس والمتابعة ، وتركن إلى التمويل بالدين العام ، الذي صار يشكل عبئا ثقيلا على الاقتصاد الليبي .
وعندما تدهورت الأوضاع الاقتصادية عقب أزمة الهلال النفطي وانحسار ايرادات النفط إلى أدنى مستوىً لها عام 2016، حيث لم تتجاوز 4.0 مليار دولار، طرح مصرف ليبيا المركزي مع بعض الخبراء من مختلف مؤسسات الدولة برنامجاً متكاملا للإصلاح الاقتصادي والمالي، لم يعيره الكثيرون ممن يرون في تعديل سعر الصرف الحل النهائي، اي اهتمام، وكانوا في حالة انكار شديد .
هذا البرنامج يتضمن جملة من السياسات الاقتصادية، وخارطة طريق، تستهدف معالجة كل التشوهات التي يعاني منها الاقتصاد بما في ذلك إصلاح سعر الصرف ومعالجة دعم المحروقات وإصلاح المالية العامة كحزمة متكاملة، ويتضمن تقديراً لسعر الصرف التوازني الذي يتناسب ومعطيات الاقتصاد الليبي والذي يحقق التوازن الداخلي والخارجي في ضوء ما تضمنه البرنامج من معالجات لإصلاح دعم المحروقات .
لقد تم تجاهل كل ماورد بهذا البرنامج ، وهناك من رفضه قبل أن يقراه او يضطلع عليه، واستمرت المناشدة لتخفيض سعر صرف الدينار الليبي، إلى أن تم التخفيض، امّا بفرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بنسبة 183%، وأمّا بتخفيض مباشر كما حدث خلال عام 2020- 2021 والذي تم بشكل غير مدروس عندما حدد السعر عند مستوى مبالغ فيه، ولم يصمد هذا السعر، وضلت كل التشوهات الأخرى التي يعاني منها الاقتصاد على ماهي عليه، واستمر نمو الإنفاق العام ولم يهتم بأمره المنادون بتغيير سعر الصرف .
ولازالت الضغوط على سعر صرف الدينار الليبي تتوالى إلى يومنا هذا، وآخرها كانت نتيجته فرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بنسبة 27%، وأكثر من يتضرر منها هو المواطن المستهلك، أمّا المستفيدون فهم من نادوا بتخفيض سعر الصرف، ولن تتوقف هذه الضغوطات إلى أن يتم تعويم الدينار، وانهيار الاقتصاد الليبي معه، مثل ماحدا في كثير من الدول النامية الأخرى .