| مقالات اقتصادية
أبوسنينة يكتب: “القطاع المصرفي الليبي .. الدور المفقود ومتطلبات إعادة الثقة وآفاق تجديد انطلاقته”
كتب: د. محمد أبوسنينة – الخبير والمستشار الاقتصادي
يعتبر القطاع المصرفي القاطرة التي تنهض بالاقتصاد وتوفر متطلبات تحقيق النمو الاقتصادي وفي مقدمتها التمويل اللازم للاستثمار، في معظم اقتصادات العالم المتقدمة والنامية على حد سواء. والقطاع المصرفي في ليبيا ساهم في الماضي في تمويل الكثير من المشروعات الإسكانية والصناعية ولعب دورًا مهمًا فى النشاط الاقتصادي منذ تأميم المصارف فى سبعينيات القرن الماضي.
أما في السنوات الأخيرة؛ فقد انحسر الدور التمويلي للقطاع المصرفي، بوضعه الحالي، وأصبح غير قادر على القيام بهذه المهمة كما ينبغي، ولا ترقى الخدمات التي يقدمها إلى مستوى التوقعات، حيث كثيرا ما نسمع عن عدم رضى المتعاملين مع المصارف عن نوعية وسرعة وأسعار الخدمات المصرفية التي تقدمها المصارف العاملة، رغم ما تحتفظ به المصارف من أموال، والخبرة المكتسبة وعراقة المصارف والتي كان بعضها فروعا لمصارف أجنبية، إذ لم تعد الظروف المحيطة مواتية وملائمة بالقدر الذي يمكن هذه المصارف من الاضطلاع بدورها على الوجه الأكمل والرفع من مستوى خدماتها.
ويرجع ذلك لجملة من الأسباب لعل أهمها الآتي:
– الظروف التشغيلية والأمنية الصعبة التي تعمل في ظلها المصارف التجارية والمتخصصة وما صاحبها من مخاطر غير محسوبة وغير متحوط لها.
– أزمة السيولة التي عصفت بالقطاع المصرفي لفترة تجاوزت السنتين.
– تعدد الأجهزة الرقابية والإشرافية التي تتولى متابعة أعمال المصارف والتضارب فيما بينها والتنازع في اختصاصاتها.
– عدم اتساق السياسة المصرفية والائتمانية التي تخضع لها مختلف المصارف وفروعها، إذ لازالت بعض المصارف تقرض بفوائد بينما توقف البعض الآخر عن هذا النشاط في ظل الانقسام السياسي وما صاحبه من انقسام لحق بالمصرف المركزي .
– خضوع المصارف لسلطتين نقديتين وما صاحب ذلك من إخلال بعض المصارف بالمتطلبات الرقابية الاحترازية المعروفة وصعوبة مراقبة هذه المصارف وفقاً لأسس موحدة.
– عدم تمكن معظم المصارف التجارية وخصوصًا المصارف العامة من عقد جمعياتها العمومية واعتماد حساباتها الختامية لفترة طويلة تجاوزت السبع سنوات في بعض الحالات، في مخالفة صريحة لأحكام قانون المصارف رقم (1) لسنة 2005 المعدل بالقانون رقم ( 42 ) لسنة 2012، مما تعذر معه التأكد من سلامة المراكز المالية لهذه المصارف بالرغم من الأرباح التي تظهرها قوائم المركز المالي، وذلك لأسباب تعود في معظمها للانقسام الذي طرأ على المصرف المركزي الذى يمثل الجمعية العمومية لهذه المصارف .
– تسرب الكثير من القيادات والخبرات المصرفية التي كانت تعمل بالمصارف التجارية العامة نتيجة لاستقطابها بالمصارف التجارية الخاصة الناشئة لما تتمتع به من مزايا تنافسية.
– تأخر معظم المصارف في تبني الوسائط المصرفية الإلكترونية التي شهدت تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة، واستمرارها في العمل وفقا لأساليب تقليدية تتصف بالمخاطر والتكاليف المرتفعة.
– تأخر معظم المصارف في استحداث وتقديم منتجات مصرفية متوافقة مع معايير ومتطلبات الصيرفة الإسلامية لمواكبة التشريعات التي صدرت بالخصوص ، ومحدودية الدور الاستثماري للمصارف في هذا المجال .
– تأثر العمليات الخارجية للمصارف بتبعات ما يعرف بمخاطر المصارف المراسلة ( D- Risking ) نتيجة للظروف والأوضاع التي تمر بها البلاد والتي ألقت بظلالها على القطاع المصرفي.
وقد كونت هذه العوامل والأسباب مجتمعة بيئة مصرفية مشوهة وغير ملائمة لاستقطاب المدخرات وتعبئتها وتسخيرها للدفع بحركة النشاط الاقتصادي ودعم وتيرة النمو الاقتصادي، تجسدت ملامحها ومؤشراتها في الآتي:
– تزعزع الثقة في القطاع المصرفي ونشوء ما يشبه مصرفية الظل التي لجأ إليها المتعاملون مع المصارف للحصول على مختلف الخدمات المصرفية على حساب الخدمات المصرفية التي تختص بتقديمها المصارف المرخص لها، بما في ذلك تحويل الأموال والحصول على السيولة.
– تدني إيرادات المصارف المتولدة عن نشاطاتها الرئيسية أو ما يعرف ب core business ولجوء المصارف لتغطية مصروفاتها عن طريق العمولات ورسوم بيع النقد الأجنبي ورسوم تقديم الخدمات والمبالغة في معدلات العمولات المقبوضة، حققت نتيجة لها أرباحا غير مسبوقة، لكنها لم تعتمد بعد من قبل الجمعيات العمومية لهذه المصارف، مما جعل المتعاملين مع المصارف يترددون في طلب مختلف الخدمات المصرفية أو الاستفتاء عن تلك الخدمات.
– تنامي الودائع تحت الطلب لدى المصارف التجارية حتى وصلت إلى حوالي 92 مليار دينار بنهاية الربع الثالث من عام 2019 بالمقارنة بما كانت عليه عام 2013، حيث كانت فى حدود 83 مليارًا، في حين لم يتجاوز إجمالي الائتمان الممنوح من المصارف بأشكاله المختلفة 16 مليار دينار فى نهاية الربع الثالث من عام 2019 مقارنة ب 18 مليار دينار في عام 2013.
– زادت ودائع المصارف التجارية لدى مصرف ليبيا المركزي من 13 مليار دينار عام 2010 إلى 19 مليارًا عام 2013 وإلى 54 مليارًا بنهاية الربع الثالث من عام 2019، منها 19.6 مليار دينار ودائع تحت الطلب، ويرجع تنامي هذه الأرصدة لدى مصرف ليبيا المركزي لعدم قدرة المصارف التجارية على توظيف هذه الأموال في النشاط الاقتصادي نتيجة لمحدودية فرص الاستثمار الواعدة و قفل التسجيل العقاري وارتفاع المخاطر.
ولما كانت المصارف التجارية تحتفظ بحوالي 72 مليار دينار من الأصول السائلة القابلة للإقراض، ولعدم نضوج صناديق الاستثمار ومباشرتها لأعمالها في الوقت الحاضر، ومحدودية دور سوق المال، فإن هذه المصارف يمكن أن تلعب دوراً مهما في توفير التمويل اللازم لمختلف أوجه الاستثمار وإنعاش النشاط الاقتصادي في المرحلة القادمة. ولكي تقوم المصارف بهذا الدور وتمارس الوساطة المالية وتقديم خدمات مصرفية متطورة وتواكب التطور في الصناعة المصرفية، ينبغي العمل على تحقيق المتطلبات الآتية:
– توحيد مصرف ليبيا المركزي كسلطة نقدية واحدة، وتعزيز دوره الإشرافي والرقابي على كافة المصارف العاملة، والعمل على تسوية كافة المعلقات المصرفية، وتدقيق الديْن العام المصرفي ووضع آلية لسداده.
– مراجعة قانون المصارف وإدخال التعديلات اللازمة عليه بما يحقق المزيد من الاستقلالية للمصرف المركزي، ويمكنه من لعب دور أكبر في التصدي للأزمات النظامية والمشاكل التي تواجه الاقتصاد الوطني ، وتحقيق الاستقرار المالي.
-إعادة الثقة للقطاع المصرفي وفقا لمبادرة يضعها المصرف المركزي بالتعاون مع مؤسسات الدولة ذات العلاقة و بالتنسيق مع المصارف التجارية لتعزيز دور المصارف التجارية في الوساطة المالية وذلك باتخاذ جملة من الإجراءات يتولى بعضها المصرف المركزي وتتولى المصارف التجارية بعضها الآخر، بالإضافة إلى إجراءات أخرى ينبغي على الدولة القيام بها.
ومن المهام التي يمكن أن يقوم بها المصرف المركزي إقرار سياسة مصرفية وفقا لإطار زمني محدد تفضي إلى تحقيق الشمول المالي وإلزام المصارف بتطبيق دليل الحوكمة الصادر عن مصرف ليبيا المركزي، واستحداث منتجات مصرفية تعزز قيمة الدينار الليبي وتجعله ملاذًا آمنا للاحتفاظ بالقيمة لدي المصارف التجارية، بحيث تتدفق السيولة إلى المصارف عوضا عن خروجها منها، كأن تصدر المصارف شهادات استثمار بالدينار الليبي ذات العائد المجدي، والتوسع في إصدار البطاقات المصرفية الإلكترونية ومنحها لكل من يدير حساب مصرفي وتركيب أجهزة السحب الآلي ونقاط البيع ونشرها على أوسع نقاط ممكنة، في إطار ما يعرف بعصرنة الجهاز المصرفي.
كما على الدولة استعادة حيوية النشاط الاقتصادي وتجديد انطلاقته واستعادة دور السجل العقاري وتفعيله، لكي يتوفر للمصارف المناخ الملائم للنشاط وفرص التمويل والاستثمار المطلوبة، وتفعيل القضاء ودعم دوره حتى تطمئن المصارف للقيام بدورها في تمويل القطاعات الإنتاجية، كما أن عمل المصارف تحت سلطة القانون وحمايته يعتبر أمرًا ضروريا لتوفير الاطمئنان لدى المتعاملين مع هذه المصارف. ومن المهم أيضًا تفعيل دور جمعية المصارف الليبية في النهوض بالمهنة وتطوير العمل المصرفي.
– إطلاق مبادرة تمويل المشروعات الصغرى والمتوسطة يتبناها المصرف المركزي ويلزم المصارف التجارية بتنفيذها، كأن يفرض على المصارف توجيه ما نسبته 25٪ من تمويلاتها ضمن إجمالي محفظتها الائتمانية لتمويل المشروعات الصغرى والمتوسطة، بحيث تلتزم المصارف بتسوية أوضاع محافظها الائتمانية وفقا لهذه المبادرة خلال ثلاث سنوات مثلا، من تاريخ البدء في تنفيذها.
– تفعيل وحدات الامتثال بالمصارف وإعطاءها دورًا أكبر في متابعة مختلف العمليات المصرفية والتأكد من الالتزام بأحكام قانون المصارف والتعليمات الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي.
– تفعيل دور الوحدات الفرعية للمعلومات المالية بالمصارف التجارية وفروعها لتعزيز إجراءات مكافحة غسل الأموال تنفيذًا لأحكام القانون رقم (2) لسنة 2005 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
– تقييم إمكانية تعزيز مستويات الملاءة والسيولة بالمصارف التجارية بزيادة الأموال الخاصة للمصارف وفقا لخطة زمنية محددة.
– الممارسة المسؤولة للسرية المصرفية والالتزام بأحكام قانون المصارف في هذا الخصوص لكى يطمئن المودعون على ودائعهم لدى المصارف وإدارة المزيد منها لدى القطاع المصرفي.
– التأكيد على أهمية صندوق ضمان الودائع وتعزيز دوره في التأمين على أموال المودعين لدى المصارف ودعمه في تكوين احتياطياته باعتباره أحد دعامات الاستقرار المالي في الدولة، مما يطمئن المتعاملين مع المصرف ويعزز ثقتهم في الجهاز المصرفي.
– تعزيز مستويات الإدارة والرقابة المصرفية من خلال وضع ضوابط صارمة لتولي الوظائف القيادية بالقطاع المصرفي تتعلق بالقدرة والكفاءة والنزاهة وتعزيز دور الرقابة المصرفية الميدانية والمكتبية التي اختص بها القانون المصرف المركزي، وذلك من خلال زيادة عدد المراقبين والرفع من كفاءتهم وبناء القدرات.
– الاهتمام بالتدريب وإعادة التأهيل في العمل المصرفي بهدف إنتاج طاقات إدارية جديدة لتعويض تلك الطاقات التي تغادر المصارف لمختلف الأسباب.
– تعزيز ثقافة حماية المستهلك المالي واستحداث وحدة إدارية تابعة للرقابة المصرفية تتولى متابعة هذا الموضوع والاطلاع بمسؤولياته.
لا شك أن هناك أولويات لمتطلبات استراتيجية إعادة الثقة يمكن تحديدها والتأكيد عليها، و للحديث بقية حول هذه الأولويات وتفاصيل استراتيجية إعادة الثقة للقطاع المصرفي وتفعيل دوره.