كتب: الخبير الاقتصادي والدكتور الجامعي بكلية الاقتصاد “محمد أبو سنينة”
لقد كتبت عدة مرات ونبهت إلى مشكلة الاعتماد على النفط في الاقتصاد الليبي والآثار السلبية المصاحبة لذلك، وما تسببه من حروب وصراعات بين الليبيين والمطالبة من وقت لآخر بتقسيم إيراداته، وأن النفط في ليبيا أوجد دولة ريعية واقتصاد ريعي ولم يحقق دولة الرفاه المنشودة.
وقد تكلم ونوه الكثيرون من المختصين والخبراء على أنه لا مستقبل للنفط كمصدر للطاقة وأنه يخسر سوقه لصالح مصادر الطاقة البديلة، وأن أسعاره في انهيار ملحوظ في اقتصاد عالمي متأزم، وها هي أسعار النفط اليوم تصل إلى أقل من 30 دولار في الوقت الذي يقول المختصون أن تكلفة استخراج برميل النفط في ليبيا قد تصل إلى 25 دولار، مما يعني أنه لم يعد مجديًا استخراج وتصدير النفط، فقد أصبح الاقتصاد الليبي أمام حقيقة دامغة ومرة، وصارت الرسالة واضحة بأن الفرصة قد ضاعت، والرهان في المستقبل لن يكون على النفط، وعندما نتحدث عن المستقبل نقصد آفاق عام 2025-2030.
وفي الحقيقة أن الفرصة لم تضيع في عام 2020 ولكنها قد ضاعت بالنسبة للاقتصاد الليبي، مند الثمانينيات وأواخر التسعينيات من القرن الماضي، وتأكد هذا الأمر في السنوات الخمس الأولى بعد العشرية الأولى من هذا القرن عندما تجاوزت أسعار النفط حاجز المائة دولار ولم يهتم أحد بالتنمية ووجهت كل الموارد لأغراض استهلاكية ودعم وقود ومرتبات، حتى صارت إيرادات النفط لا تكفي لسداد فاتورة المرتبات، ومند ذلك التاريخ دخل الاقتصاد الليبي في حالة عجز مالي صاحبه انكماش اقتصادي عام وفقدت الحكومة قدرتها على الاستدامة المالية وبدأت الاحتياطيات تنحسر، وعززت هذا الوضع حالة الاحتراب والانقسام السياسي والمؤسساتي.
اليوم يقف الليبيون أمام لحظة صدق وعليهم أن يقرروا إما أن يخلعوا عباءة النفط والتخلص من وهم تقسيم موارده، اضطرارًا لا خيارًا والبدء فى التحرر من هيمنة الاقتصاد الريعي وسلبياته وأن يشقوا طريقهم نحو بناء اقتصاد حقيقي يؤسس على الموارد والمقومات الذاتية المستدامة المتاحة كغيرهم من الدول التي لا تمتلك النفط ولا تعول عليه وأن يعي الليبيون أهمية الاستثمار في العنصر البشري، والاستفادة من اقتصاديات المعرفة والتكنولوجيا؛ وإما أن يقبلوا العيش على هامش الاقتصاد العالمي عرضة للصدمات، وبمستويات معيشية متدنية، ومن أزمة إلى أخرى.
ولكن مع الإرادة وإخلاص النية والعزم على التغيير والإحساس بالمسؤولية التاريخية يمكننا نحن الليبيون أن نشق طريقنا نحو مستقبل أفضل بالاعتماد على أنفسنا في بناء اقتصاد حقيقي وطني، والتكامل مع الاقتصاد العالمي والانخراط في فعالياته من خلال ما نمتلكه من مزايا تنافسية ومقومات ذاتية ذات مزايا مقارنة لم يتم اكتشافها واستغلالها في الماضي. ويتطلب ذلك؛ تغيير أسلوب التفكير في إدارة اقتصاد البلاد وتغيير نمط وأسلوب إعداد الميزانية العامة للدولة وبناء مؤسسات احتوائية وتطبيق القوانين واحترامها والتخلي عن الأسلوب التقليدي في بناء السلم الاجتماعي المتبع (شراء السلم الاجتماعي) الذي يكرس حالة الدولة الريعية والسعي لبناء دولة الرفاء، وفتح المجال أمام رأس المال الوطني لتنويع مصادر الدخل وتهيئة البيئة المناسبة لذلك، وفتح المجال أمام الاستثمار الأجنبي المباشر ومعالجة التشوهات المصطنعة التي يعاني منها الاقتصاد وإيقاف الهدر في الموارد المتاحة سلمًا وحربًا.