كتب الخبير المصرفي “محمد أبوسنينة” مقالاً، قال خلاله:
تناولت عدة إدراجات على الفيسبوك بيان مصرف ليبيا المركزي عن الإيرادات والإنفاق بالنقد الأجنبي خلال الفترة من يناير 2025 إلى نهاية أغسطس 2025، وقد أبدى أصحاب هذه الإدراجات ملاحظات وتحفظات حول الأرقام التي تضمنها هذا البيان وما انتهى إليه من نتائج.
وأنا هنا لست بصدد المشاركة في تقييم الأرقام أو التأكد من دقتها، من جهة، حيث بذل المعلقون والمحللون جهداً كبيراً في هذا المجال، ولا أهدف إلى تفنيد ما توصل إليه أصحاب الإدراجات، أو التشكيك في صحة البيانات، ولكن وددت فقط التنبيه إلى نقطتين مهمتين: الأولى تتعلق بمنهجية تناول تحديد العجز أو الفائض في ميزان المدفوعات، من وحي الأرقام التي عرضها مصرف ليبيا المركزي في بيانه، والنقطة الثانية تتعلق بمصادر النقد الأجنبي التي ينبغي أن تدخل في حساب إجمالي الإيرادات بالنقد الأجنبي خلال الفترة، والتي تستوجب المزيد من الشفافية والإفصاح من قبل الجهات التي يفترض أن تولد نشاطاتها نقداً أجنبياً، إمّا لكونها تدير أصولاً مقومة بالنقد الأجنبي في الأساس، أو لأن لدى هذه الجهات نشاطاً تصديرياً أو مساهمات في الخارج تدر عليها توزيعات بالنقد الأجنبي.
بالنسبة لمنهجية قياس العجز أو الفائض في ميزان المدفوعات، من المهم الإشارة إلى أن ميزان المدفوعات هو سجل لجميع المعاملات التجارية والمالية الدولية التي يقوم بها سكان البلد خلال فترة زمنية محددة، ويتكون ميزان المدفوعات من ثلاثة عناصر: الحساب الجاري، والحساب المالي، وحساب رأس المال. والمتعارف عليه هو قياس العجز أو الفائض في ميزان المدفوعات سنوياً أو ربع سنوياً، ولا يقاس شهرياً، لكي يكون لهذا القياس معنى اقتصادياً؛ فقد تكون هناك دفعات أو حوالات واردة أو صادرة في الطريق، وقد تكون هناك دفعات مؤجلة لفترة الاستحقاق، ولن تكون فترة شهر كافية لإعطاء صورة حقيقية عن وضع ميزان المدفوعات. ولذلك لا أعتقد أن هناك جدوى من مقارنة صافي تدفقات النقد الأجنبي من شهر لآخر لأغراض اقتصادية، إذ قد ينقلب الفائض إلى عجز، وقد ينقلب العجز إلى فائض. ولا يمكن تأسيس أو وضع سياسة اقتصادية وتغييرها من شهر إلى آخر حسب أوضاع ميزان المدفوعات. فالأرقام المعلنة لا تعدو كونها تدفقات نقدية في حاجة للمراجعة، حتى يمكن قبولها ونشرها كنتيجة نشاط.
أمّا بالنسبة لمصادر النقد الأجنبي واستخداماته في الاقتصاد، فمحلها الحساب الجاري بميزان المدفوعات، ويقيس الحساب الجاري التجارة الدولية (الصادرات والواردات) وصافي الدخل على الاستثمارات والمدفوعات المباشرة. وهنا يتمحور مطلب الشفافية والإفصاح اللازمين، وهو بيت القصيد.
في ليبيا جرت العادة على التركيز على إيرادات تصدير النفط والغاز بالنقد الأجنبي باعتباره المصدر الرئيس للدخل، وعدم الاهتمام بمصادر النقد الأجنبي الأخرى، والتي ينبغي أن تسجل أرباحها بالحساب الجاري بميزان المدفوعات باعتبارها تدفقات نقدية إلى الداخل، ومن ثم تؤثر في وضع الميزان ونتيجته.
من بين أهم موارد النقد الأجنبي، العائد على استثمارات مصرف ليبيا المركزي لاحتياطياته، من خلال ما يديره من محافظ استثمارية وما يمتلكه من سندات خزانة وما يحتفظ به من ودائع زمنية لدى مصارف أجنبية، وتعتبر إحدى مكونات إيرادات النقد الأجنبي، ولدى مصرف ليبيا المركزي مصروفات بالنقد الأجنبي. وفي نهاية السنة المالية يقوم مصرف ليبيا المركزي بدفع توزيعات لوزارة المالية في شكل أرباح. وما يحققه مصرف ليبيا المركزي من أرباح صافية ينبغي أن يسجل بالحساب الجاري بميزان المدفوعات، وما يصرفه مصرف ليبيا المركزي من موارده الخاصة بالنقد الأجنبي أو احتياطياته ينبغي أن يسجل ضمن المصروفات التي تظهر بالحساب الجاري بميزان المدفوعات. بمعنى آخر، موارد النقد الأجنبي لدى مصرف ليبيا المركزي أو أي مؤسسة عامة أو خاصة أخرى ينبغي أن تظهر جنباً إلى جنب مع إيرادات النفط، وأي مصروفات من قبل هذه الجهات بالنقد الأجنبي لتغطية أي واردات أو مدفوعات في الخارج ينبغي أن تسجل بالحساب الجاري بميزان المدفوعات. وإذا كانت تتعلق بصادرات أو واردات سلعية فتسجل بالميزان التجاري ضمن الحساب الجاري بميزان المدفوعات.
المصدر المهم الآخر للنقد الأجنبي، أرباح وعوائد استثمارات محفظة المؤسسة الليبية للاستثمار، بما في ذلك محفظة ليبيا أفريقيا، والمحفظة الاستثمارية طويلة المدى، والشركة الليبية للاستثمارات الخارجية، التي ينبغي أن تؤول أرباحها كتوزيعات للخزانة العامة. بالإضافة إلى المصرف الليبي الخارجي الذي يدير عدداً من المساهمات في مختلف دول العالم، التي ينبغي الوقوف على نتيجة نشاطها واحتساب توزيعاتها التي تؤول للمصرف الليبي الخارجي، ومن ثم في شكل أرباح لمصرف ليبيا المركزي، ضمن إيرادات النقد الأجنبي خلال الفترة. وبصفة عامة ينبغي الإفصاح عن كافة عوائد الاستثمارات الليبية في الخارج، واحتسابها عند الإفصاح عن إيرادات النقد الأجنبي خلال أية فترة زمنية جنباً إلى جنب مع إيرادات النفط. وفي حالة عدم تحقق أي أرباح، أو عدم توريدها، ينبغي أن تظهر قيمتها صفراً. أمّا بالنسبة لإمكانية استخدام ناتج إعادة تقييم الأصول في إطفاء أو تغطية العجز، فذلك يتوقف على السياسة المحاسبية التي تتبعها المؤسسة ودورية تقييم الأصول، ولا يعتد بالأرباح الدفترية في إطفاء عجوزات أو خسائر فعلية.
الشفافية تقتضي عرض الحساب الجاري بميزان المدفوعات بمكوناته المختلفة، من وقت لآخر، لتقدير الموقف الحقيقي للاقتصاد وما ينبغي أن توجه نحوه السياسات، غير ذلك يظل الموقف غير واضح والمعالجات جزيئية، ونتائجها محدودة.