| مقالات اقتصادية
“أبوسنينة” يكتب مقالاً بخصوص مراسلة المصرف المركزي الأخيرة الموجهة إلى رئيس مجلس النواب
كتب: الخبير الاقتصادي “د. محمد أبوسنينة” مقالاً.
سألني بعض المهتمين وبعض الصحف الالكترونية عن رأي في طلبات المصرف المركزي الأخيرة الموجهة إلى السيد رئيس مجلس النواب بموجب رسالة السيد المحافظ المؤرخة في 27 فبراير 2024 ، والتي يقترح فيها قيام مجلس النواب بإتخاذ جملة من الإجراءات، والتي من أهمها فرض رسم ( ضريبة ) على سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي بواقع 27% لكافة أغراض استعمالات النقد الأجنبي باستثناء القطاعات الممولة من الخزانة العامة ذات الطابع السيادي والخدمي ، ليكون سعر الصرف مضافاً إليه الضريبة أو الرسم مابين 5.95 دينار و 6.15 دينار للدولار الواحد ، بحيث يتم تخفيض قيمة الضريبة أو زيادتها حسب أوضاع إيرادات النقد الأجنبي وتطور النفقات ، مشيراً إلى أن هذا الاجراء لن يؤدي إلى الاستقرار في السوق الموازية طالما وجد طلب إضافي على النقد الأجنبي غير معلوم المصدر . !
مبرراً هذا الطلب بأنه يحقق إيرادات إضافية خلال عام 2024 تُقدّر بحوالي 12 مليار دولار ، لاستخدامها في إطفاء جزء من الدين العام وتمويل مشاريع التنمية .
كما طلب إقرار حكومة موحدة للدولة وضبط الإنفاق العام وترشيده، وبالبحث في دوافع طلب فرض رسم أو ضريبة على سعر الصرف ، نلاحظ عدم وضوح الطلب بالخلط بين الضريبة والرسم ، فإذا كان المطلوب رسماً يفرض على سعر الصرف ، إذا وجدت مبرراته ، فهو يعتبر اختصاص أصيل للمصرف المركزي بالتنسيق مع الحكومة ، ولا علاقة لمجلس النواب بفرض مثل هذا الرسم ، وإن الرسوم في العادة لا تفرض إلا مقابل تقديم خدمة محددة ، من حيث المبدأ .
وإذا كان المطلوب هو فرض ضريبة ، فلا ضريبة إلا بقانون، والضرائب تعتبر من بين أدوات السياسة المالية، حتى وإن تعلقت بسعر الصرف، وطلب فرضها يعتبر اختصاص أصيل للحكومة لتحقيق مستهدفات السياسة المالية ، ولا يمكن الغاؤها إلا بقانون .
مما يثير العديد من التحفظات القانونية حول مثل هذا الطلب ، لا سيما وإن محافظ مصرف ليبيا المركزي أشار إلى أن هذا الإجراء لن يؤدي إلى استقرار سوق النقد الأجنبي !!! وهو ما يؤكد عدم جدوى هذا الإجراء فيما لو تم اتخاذه .
ومن المفيد أن نشير إلى أن سياسة فرض رسم على سعر الصرف التي تلجأ إليه بعض المصارف المركزية ، على سبيل الاستثناء ، تكون في العادة لتضيق الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء للنقد الأجنبي بهدف تقليص هامش ربح المضاربين في السوق السوداء ، تمهيداً للقضاء عليها ، شريطة أن يكون ذلك ضمن برنامج متكامل يعمل عليه المصرف المركزي لإصلاح سعر الصرف ولا يتوقف عند فرض رسم على سعر الصرف لفترة معينة تم تعديله دون العمل على معالجة الأسباب الحقيقية وراء مشكلة سعر الصرف .
فضلا عن أن مجرد فرض ضريبة على سعر الصرف على عمليات معينة أو قطاعات معينة وإعفاء معاملات قطاعات أخرى منها ، يؤدي إلى تعدد أسعار الصرف المعمول بها في الاقتصاد ، وهو الأمر الذي يتعارض مع المادة الثامنة من اتفاقية صندوق النقد الدولي التي وقع عليها مصرف ليبيا المركزي منذ عام 2003 , ويشكل تشوهاً اقتصادياً لا ينبغي أن تكون سياسات المصرف المركزي سببا فيه .
وكان المبرر الذي قدمه مصرف ليبيا المركزي لطلب فرض الرسم على سعر الصرف ، تحقيق إيرادات إضافية لاطفاء جزء من الدين العام ، وحيث أنه من المعلوم أن الدين العام ، يعتبر دين في ذمة الحكومة ، وتقع على الحكومة مسؤولية سداده ، لصالح مصرف ليبيا المركزي ، فكيف للدائن ( مصرف ليبيا المركزي ) أن يتحمل عبء ومسؤلية سداد الدين بدلاً من المدين ( الحكومة ) ؟ ولا بأس في أن ينبه المصرف المركزي الى المخاطر المصاحبة لتنامي الدين العام .
اليس الأولى بالحكومة أن تسعى للبحث في وسائل وأساليب سداد هذا الدين القائم في ذمتها وأن تتحمل همّه ومسؤلية سداده ، فضلاً عن ان تغيير سعر الصرف ، سواءً بتخفيضه بشكل مباشر أو بإضافة رسم عليه ، لا يكون في العادة لتمويل نفقات الحكومة أو سداد التزاماتها ، وإن استخدامه في هذا الاتجاه يعتبر استخداماً في غير محله لهذه السياسة ، وتطبيقاً خاطئًا لسياسة تغيير سعر الصرف التي وجدت أصلا لمعالجة مشاكل ميزان المدفوعات وليس لتمويل الحكومة .
ومن الواضح أن مصرف ليبيا المركزي قلق إزاء وضع احتياطياته من النقد الأجنبي ، ويسعى إلى تخفيض الطلب على النقد الأجنبي بشتى الطرق والوسائل ، ويبدو أن هذا القلق هو الدافع الحقيقي الكامن وراء طلبه فرض رسم أو ضريبة على سعر الصرف ، بعد أن عجز هو عن القيام بذلك ، فهل وصلت أوضاع الاحتياطيات لدى المصرف المركزي إلى الحد الذي يستوجب تخفيض سعر صرف الدينار الليبي من 4.48 دينار الى 5.95 دينار للدولار ، أي بنسبة تخفيض تقدر بحوالي 20% ، مما قد يترتب عليه ارتفاع أسعار السلع المستوردة في الأسواق بنسبة 33% على الاقل ، وهو الأمر الذي يتعارض مع دور ووظيفة المصرف المركزي في المحافظة على المستوى العام للأسعار ، وهل قدّر المصرف المركزي مرونة الطلب على النقد الأجنبي ، بحيث توقّع استجابة الطلب على النقد الأجنبي لرفع سعر النقد الأجنبي ، في دولة يعتبر اقتصادها مكشوفا على الخارج بنسبة تتجاوز 80% , وتنشط فيها عمليات السوق الموازية ؟ .
ومن المعلوم، وفقاً لأفضل الممارسات ، أن المصرف المركزي لا يلجأ إلى تخفيض سعر الصرف ، أو وضع قيود صارمة على استخداماته طالما كانت الاحتياطيات الحرة التي يحتفظ بها تتجاوز احتياجات البلاد من الواردات السلعية والخدمية لمدة ستة شهور أو أكثر ، حتى لا تنشط السوق السوداء .
هذا لا يعني ترك الحبل على الغارب ، وعدم متابعة الإنفاق بالنقد الأجنبي ، ووضع سياسة واضحة وشفافة لإدارته ، والحد من عمليات غسل الأموال .
وهنا تلعب السياسة التجارية دوراً مكملاً لما يقوم به المصرف المركزي من إجراءات للمحافظة على احتياطياته وتنميتها .
كما أن قيام المصرف المركزي بتغير سياسته المتعلقة بإدارة وعرض النقد الأجنبي من وقت لأخر ، في شكل ردود أفعال لما يطرأ على الدخل الذي يرد إليه بالنقد الأجنبي ، لا يخدم أهداف استقرار سوق النقد الأجنبي أو السيطرة على السوق الموازية ، حيث لا ينبغي أن يكون المصرف المركزي مسايراً أو محابياً للاتجاهات الدورية في إيرادات النقد الأجنبي ، بل ينبغي أن يكون مناوياً للتقلبات التي تطرأ على هذه الإيرادات من خلال المحافظة على نمط مستدام لعرض النقد الأجنبي يتوافق مع المتاح لديه من احتياطيات حرة بالنقد الأجنبي ، ووضع سعر الصرف الذي يحقق التوازن ، وسياسات تتصف بالاستدامة للحصول عليه .
ماذا نستنتج من اللجوء الى أتباع السياسات المقترحة الواردة بالرسالة الموجهة لمجلس النواب المتعلقة بسعر الصرف في الوقت الحاضر ؟
أولاً : ان كل السياسات السابقة التي اتخذت حيال سعر الصرف منذ عام 2018 وحتى تاريخه ، لم تكن موفقة في اصلاح سعر الصرف ، ولم يكن أي من الأسعار التي حددت في السابق لصرف الدينار الليبي من عام 2018 أسعارًا توازنية أو عادلة ، ولم تحقق الاستقرار أو الاستدامة ، وها نحن نرجع لنقطة الصفر مجددًا .
ثانياً : أن غياب مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي الموحد منذ عام 2014 وإلى يومنا هذا ، ساهم في تعقيد الأوضاع الاقتصادية وعدم التصدي لمشكلة إصلاح سعر الصرف بشكل علمي وعملي وفي حينه ، وفقاً لأحكام قانون المصارف ، وصعّب مهمة مصرف ليبيا المركزي في مواجهة المشكلة .
ثالثاً : لم يستفيد مصرف ليبيا المركزي من التجربة التي خاضها بنجاح لتصحيح وضع سعر الصرف والقضاء على السوق الموازية خلال الفترة 1999- 2002 ، ( تعديل وتوحيد سعر الصرف ) والتي استقر بعدها سعر الصرف طوال المدة منذ عام 2002 إلى عام 2012، وان فيها القضاء على السوق السوداء للنقد الأجنبي ، رغم أن احتياطيات المصرف المركزي في عام 1999 كانت لا تتجاوز ثلاثة مليارات دولار !! .
رابعاً : إن أساليب إدارة المال العام المتبعة ، والميزانيات الفلكية السنوية للانفاق العام ، التي نفدت طوال الفترة الماضية، ووجود حكومتين، ساهمت في استفحال الدين العام، والتطور الكبير في عرض النقود، والعملة في التداول ، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية .
ومما عزز ذلك غياب السياسات المالية المنضبطة ، وعدم مراعاة قواعد المالية العامة، الأمر الذي ولّد ضغوطا متنامية على سعر الصرف ، وعدم تمكن المصرف المركزي من الدفاع على استقرار سعر صرف الدينار الليبي .
تاسياً على ماسبق ذكره ، نرى أن المصرف المركزي هو الجهة المعنية ، وفقاً لأحكام قانون المصارف ، بتصحيح أوضاع سعر الصرف ، ولا علاقة لمجلس النواب بهذا الأمر ، وكان الأجدى الاكتفاء بإحاطة مجلس النواب بمجمل الأوضاع الاقتصادية والمالية والتحديات التي يواجهها المصرف المركزي ، والتأكيد على أهمية إعداد وإصدار ميزانية عامة موحدة للدولة ملاءمة للدخل المتوقع تحقيقه خلال السنة ، وأن يؤكد على أهمية العمل على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط الخام كمصدر وحيد للدخل واتخاذ مايلزم لمكافحة الفساد وإساءة استخدام المال العام ، دون اقحام مجلس النواب في وضع وتنفيذ السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف ، وهو الأمر الذي ينبغي أن يعيه مجلس النواب .