كتب الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة” مقالًا قال فيه: بمناسبة مشاورات المادة الرابعة من إتفاقية صندوق النقد الدولي ، مع المؤسسات المالية والنقدية وبعض الوزارات في ليبيا :
سبق لي، عندما كنت أعمل بمصرف ليبيا المركزي ، المشاركة في الاجتماعات التي يعقدها صندوق النقد الدولي مع المؤسسات المالية والنقدية في ليبيا، وكان ذلك قبل 2013، هذه الاجتماعات تعقد تنفيذا لنص المادة الرابعة من اتفاقية الصندوق، ويجريها الصندوق مع كل الدول الأعضاء به على أسس ثنائية بهدف جمع معلومات اقتصادية ومالية عن الأوضاع والنشاطات الاقتصادية واداء المؤسسات بهذه الدول ، حيث يجتمع خبراء الصندوق مع مختلف القطاعات في الدولة كل على حدة ثم يعقد اجتماعاً مشتركاً مع الجميع، غير أن استفادة الدول من هذه المشاورات تختلف من دولة إلى أخرى، وحسب تكوين الفريق الذي يواجه فريق خبراء الصندوق، ومالم تكن هناك قضايا محددة تطرحها مؤسسات الدولة في الاجتماعات على خبراء الصندوق بشكل واضح بالرغم من أن طبيعة هذه المشاورات غير موجهة أصلًا لمعالجة المشاكل التي تعاني منها اقتصادات مختلف الدول .
ومالم تكن هناك أجندة محددة متوافقة مع معطيات الدولة تكون هي محور النقاش ، ومعلومات صحيحة لدى خبراء الصندوق يستعملونها في النقاش مع مختلف القطاعات ، للوصول إلى أهداف محددة وواضحة تسهم في حل المختنقات التي تعاني منها الدولة ، فإن الاجتماع مع خبراء الصندوق لن يعدو كونه اجتماعاً بروتوكوليا للالمام بأوضاع مختلف القطاعات يستفيد منه خبراء الصندوق في استعمالاته المختلفة أكثر من استفادة الدولة التي يجري معها المشاورات وتصبح أجندة الاجتماع مجرد اسئلة يطرحها خبراء الصندوق بحثًا عن إجابات لها من الدولة المعنية ، ويحاول ممثلي القطاعات التوضيح وتوفير الاجابات الكافية حولها ، وكل منهم يحاول إبراز وتبرير ما أتخذه من إجراءات، بالرغم من أنهم أي ممثلي القطاعات، قد لا يكونو على وفاق حولها فيما بينهم .
وبعد انتهاء المشاورات يقوم خبراء الصندوق بإعداد تقريرا يستخدم كأساس لمناقشات المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي ، ثم يقوم مدير عام صندوق النقد الدولي ، باعتباره رئيس المجلس التنفيذي ، بتقديم ملخص بآراء المديرين التنفيذيين ، ثم يقوم بإرسال هذا الملخص إلى السلطات في البلد العضو، والاسئلة التي يطرحها خبراء الصندوق تكون في الغالب أكثر جدية ودقة عندما تكون الدولة محل اهتمام الصندوق أو من بين الدول التي حصلت على قروض من الصندوق في السابق أو تسعى للحصول على قروض جديدة .
والأهم من هذا كله إذا صادف وقامت الدولة التي تجري مشاورات مع الصندوق ، بطرح مشكلة حقيقية تؤرق اقتصادها، بهدف إيجاد حل لها أو تحتاج فيها الدولة لمساعدة فنية من خبراء الصندوق، فإن مساهمة خبراء الصندوق في هذه الاجتماعات التشاورية في مثل هذه الحالة قد لا تسعفها وتكون في أغلب الأحيان محدودة ، هذا إن قام خبراء الصندوق أصلًا بتقديم أي رأي أو حل، إذ نجد دائمآ لدى خبراء الصندوق تحفظات حول أي مقترحات في مواجهة أي مشكلة تعرض عليهم .
وقد يضمّن خبراء الصندوق المشاركون في مشاورات المادة الرابعة ، المشكلة التي تعرض عليهم ، أثناء الاجتماع في التقرير الذي يعدونه في نهاية المشاورات وفي العادة يحيل الصندوق المشاكل التي تواجه الدول الأعضاء في إطار ما يعرف بالمساعدة الفنية إلى لجنة تكون هذه اللجنة من قسم القانون وقسم التمويل والأسواق الدولية التابعين لصندوق النقد الدولي أو حسب طبيعة الموضوع وحتى في حال إحالة المشكلة التي تسعى دولة إيجاد حل لها ، إلى لجنة أو إلى الأقسام الفنية المختصة بالصندوق فإنه لا يوجد مايضمن التزام هذه اللجنة أو القسم المختص بالصندوق بتقديم حل للمشكلة المعروضة عليه .
وقد سبق لمصرف ليبيا المركزي خلال عامي 2016 و 2017 طلب المساعدة الفنية من صندوق النقد الدولي لحل مشكلة السيولة التي واجهت القطاع المصرفي في ليبيا وبعد اجتماعات متعددة ومناقشات حول مشكلة السيولة وتوفير كل البيانات التي طلبها خبراء الصندوق حول مختلف المتغيرات، فقد عجز خبراء الصندوق عن تقديم حل يسعف مصرف ليبيا المركزي للتغلب على المشكلة ، ولم يقدموا خبراتهم المكتسبة في التعامل مع مثل هذه المشكلة ، التي قد تكون واجهت دول أخرى وظلت مشكلة السيولة تؤرق المواطن ، وتهدد القطاع المصرفي ، وتواجه النشاط الاقتصادي لسنوات.
وقد قمت شخصيًا في عام 2016 ، بزيارة مقر صندوق النقد الدولى في واشنطن ، وطرحت عليهم المشكلة مجددًا في إطار متابعة المناقشات التي أجريت معهم في السابق حولها ولقد الحّيت عليهم بضرورة وأهمية تقديم رأيهم حول المشكلة ولكن دون جدوى، وبعد مطالبات متعددة على أمل تقديم برنامج أو حزمة من السياسات للتعامل مع المشكلة قاموا بتقديم تقرير مشترك بين أقسام الصندوق المعنية ، اعتبروه غير قابل للتداول ، ولم يتضمن هذا التقرير الحل المرجو والمطلوب لحلحلة مشكلة السيولة ، ولم يسعف مصرف ليبيا المركزي .
ويبدوا أنه كان هناك خلافًا بين قسم القانون وقسم التمويل والأسواق الدولية العاملين بالصندوق ، حول ما يمكن تقديمه من حل للمشكلة ولم يكن أي منهما مستعدا لتحمل المسؤلية عن تقديم رأي فني حلاً لمشكلة السيولة في ليبيا، ومع احترامي لبعض منهم كاقتصاديين معتمدين لدى الصندوق ، ألا أن أكثر ما ينشط فيه هؤلاء الخبراء ويوصون به في مواجهة المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الدول النامية ، خاصة الدول التي تحتاج للتمويل ، أو الدول المدينة للصندوق والتي أرتبطت ببرنامج إصلاحات معه تتلخص في تخفيض سعر الصرف ورفع الدعم بالنسبة للدول التي لديها سياسات دعم تاريخية بصرف النظر عن الظروف الموضوعية للدول المختلفة وأوضاعها الاجتماعية ويؤكدون دائما على ضرورة تحرير الحساب الجاري بميزان المدفوعات ، وضد تعدد أسعار الصرف ، أو تقييد أو دعم سعر الصرف، وبالرغم من أن صندوق النقد الدولى الذي أنبثق عن اتفاقية بريتون وودز ، مع البنك الدولي للإنشاء وإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية التانية ، كان قد وجد اساساً للمحافظة على استقرار أسعار صرف العملات ، ودعم أوضاع ميزان المدفوعات واستقرارها إلا أنه أصبح اليوم على رأس اجندة صندوق النقد الدولي ووصفاته المشهورة ، تخفيض أسعار صرف العملات الوطنية أو تعويمها ، كسياسة يوصى بها لعلاج الكتير من المشاكل التي تعاني منها الدول التي تواجه عجزاً في ميزان المدفوعات ، أو نقصا في موارد النقد الأجنبي اللازم لتسيير معاملاتها الاقتصادية مع الخارج، أو التي تتدهور احتياطياتها المقومة بالنقد الأجنبي وعلى هذه الخلفية ليس كل اقتصادي العالم على وفاق تام مع دور الصندوق في الاقتصاد العالمي وسياساته ، وبرامجه الإصلاحية وما يقدمه من دعم لا سيما بعد إنهيار نظام برتن وودز ، ودخول العالم في مرحلة تحرير أسعار الصرف، مما دعا الاقتصادي الكبير ملتون فريدمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ، بعد فك الارتباط بين الدولار والذهب في أوائل السبعينيات إلى القول بأنه لم تعد هناك حاجة لصندوق النقد الدولي في عالم اليوم الذي صار يعتمد تعويم العملات أو تحريرها وأن الأجدى بمنظمة الأمم المتحدة توفير المصروفات التي تنفقها على هذا الصندوق !
وعلى الصعيد الشخصي ، لا أعول كثيرًا على نتائج مشاورات المادة الرابعة ، خاصة تلك الاجتماعات التي تحضرها مؤسسات الدولة المختلفة دفعة واحدة ، ولا يحضرها اقتصاديون على مستوى الخبراء دعماً للمسؤولين الذين يمثلون مؤسسات الدولة باعتبار هذه الاجتماعات ذات طبيعة فنية وليست سياسية وربما تولدت نفس القناعة لدي خبراء صندوق النقد الدولي أنفسهم عندما يجرون مناقشاتهم المتفق بشأنها ويجدون أنفسهم في مواجهة سياسيين أو غير متخصصين ، مالم تسبقها اجتماعات مع كل مؤسسة على حدة ، يكون قد اُعدّ لها أعدادا جيداً، وأنا هنا لا أقصد مشاورات الصندوق الأخيرة مع المؤسسات الليبية تحديدًا ، والتي لا أعلم من حضرها ولكنني أعني ماجرت عليه العادة وتجرى عليه مع مختلف الدول في إطار تقييم مدى الاستفادة من هذه المشاورات .
وفي ختام الاجتماع الأخير الذي انطلق بتونس ، بتاريخ 11 مارس 2023 ، مع المؤسسات الليبية وخبراء مشاورات المادة الرابعة التابعين لصندوق النقد الدولي ، ووفقاً لما ورد بموقع مصرف ليبيا المركزي، فقد أبدى الخبراء ارتياحهم بل اثنوا على مؤشرات الاقتصاد الكلي في ليبيا خلال السنة المالية 2022 ، بالرغم من أن هذه السنة كانت قد إنتهت بعجز في ميزان المدفوعات ، وبانفاق عام غير مسبوق حيث قدّر ديوان المحاسبة الانفاق العام ، في شكل مصروفات بحوالي 162 مليار دينار في حين كان مجموع الإيرادات في حدود 134 مليار دينار ، وماورد بالبيان الدوري لمصرف ليبيا المركزي كان في حدود 127 مليار دينار، وكان جله انفاقاً استهلاكيا ومرتبات، وأن مصرف ليبيا المركزي لازال يعمل جاهداً على تصحيح سعر الصرف للوصول به إلى السعر التوازني ويبدو أن خبراء الصندوق لم يأخذوا في الاعتبار معدل التضخم أو معدل البطالة في تقيمهم لمؤشرات السنة المالية 2022 ، وحكمهم على أوضاع الاقتصاد الكلي خلالها ، خصوصاً بعد تداعيات الحرب الاوكرانية الروسية ، والنقص في إمدادات الغذاء وارتفاع أسعاره، الذي تأثرت بها معظم دول العالم وليبيا ليس استثناءً ، ولا نعلم ماهي السياسات الاقتصادية ، بالمعنى الاقتصادي للمصطلح التي اتخذت على وجه التحديد خلال السنة وماذا كانت أهدافها و التي أثنى عليها خبراء الصندوق في نهاية المشاورات ، في دولة غير مستقرة تديرها حكومتان وبها مصرفان مركزيان، ولم يعلق خبراء الصندوق على معدل النمو الاقتصادي ، وفيما إذا كان هناك ركود تضخمي قد شهده الاقتصاد الليبي خلال العام 2022 من عدمه، وبالرغم من أن التقرير الذي يعده خبراء الصندوق ، الذي ينبثق عن مشاورات المادة الرابعة يجب أن يرفع إلى المدير التنفيذي للصندوق، لتتم مناقشته مع المدراء التنفيذيين بالصندوق قبل الإعلان عن نتائجه بشكل رسمي وإحالته للسلطات الليبية، فقد ظهر علينا خبراء الصندوق ببعض التوصيات ، عشية انتهاء المشاورات لعلّ أهمها توصية جديدة تمخضت عن هذا النوع من المشاورات ، و لم يكن معتاداً صدور مثل هذه التوصية عن المشاورات بصرف النظر عن مدى وجاهتها ، وهي الدعوة إلى تنويع الاقتصاد الليبي وإصلاح نظام الدعم وعدم الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل ، وكأن المشاورات أتت بأمر غير مسبوق وحل لمعالجة الاقتصاد الليبي، هذه التوصيات ليست جديدة على الاقتصاد الليبي ، ولطالما كتب عنها وطالب بها الاقتصاديون الليبيون ، حتى قبل أن يعي اهميتها خبراء صندوق النقد الدولي ومن يسير في ركابهم ولخصوصية هذه التوصية وتوقيت صدورها والاستعجال بها قبل صدور التقرير الرسمى عن المدراء التنفيذيين للصندوق ضمن مشاورات المادة الرابعة لهذه السنة فهي مدعاة للتعليق عليها، وسوف اتناولها في إدراج لاحق ، حتى لا اطيل عليكم في هذا الإدراج.