كتب: الخبير الاقتصادي د. محمد أبوسنينة مقالاً
يقصد بالتنويع الاقتصادي إيجاد أكتر من مصدر وحيد للدخل ، أي تنويع وتعدد القطاعات التي تولد دخلاً في الاقتصاد وتساهم بنسب مهمة في هيكل الناتج المحلي الاجمالي في ليبيا يوجد مصدر وحيد للدخل يتولد عن إستخراج وتصدير النفط الخام منذ بداية الستينيات من القرن الماضي ، عندما شرع في تصدير النفط في ليبيا .
وظلّ الاقتصاد الليبي معتمداً على هذا المصدر الوحيد إلى يومنا هذا ، ولم تنجح الحكومات المتعاقبة منذ الستينيات من القرن الماضي في ايجاد مصادر دخل اخري ، أو على الأقل مصدر واحد آخر غير النفط ، لتوليد الدخل في الاقتصاد الليبي ، بالرغم من ما تم إعداده من خطط للتنمية الاقتصادية وما انفق من أموال .
وبذلك صار الاقتصاد الليبي اقتصادأً ريعياً ، يصدر النفط وتقوم الحكومة بانفاق الدخل المتاتي منه ، في شكل اجور ومرتبات ( توزيع الرّيع ) ، حتى وصل عدد الموظفين والعاملين في القطاع العام 2.8 مليون موظف ( حوالى ثلت عدد السكان ) بالإضافة للدعم ومصروفات تسيرية للحكومة ، ونسبة بسيطة من دخل النفط توجه نحو بعض المشروعات التنموية التي لا يتعدى مردودها توفير بعض الخدمات الاساسية التي لا غنىً عنها للمواطنين مثل مشاريع المياه والصرف الصحي او الكهرباء او صيانة الطرق وبعض المرافق الحكومية ، وصيانة المدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة .
اي ان نسبة الاموال التي توجه نحو الاستثمار وتكوين راس المال الثابت تعتبر محدودة جدا ، ان لم تكن معدومة ، حيث توقف تنفيذ خطط التنمية منذ عام 1981. السؤال الذي يجب ان يعيه المسؤ لين عن الانفاق العام ، و تفكر فيه الحكومة ، ممثلة في مجلس الوزراء ، وتضعه على رأس اولوياتها ، وتهتم به السلطة التشريعية ، التي ينبغي أن تراقب وتسائل الحكومة ، وتسن التشريعات اللازمة ، هو – ماذا لو استغنى العالم ( الدول التي تستورد النفط الخام من ليبيا ومن بقية الدول المصدرة للنفط ) عن هذا النفط ، بأن وجد مصدر بديل لتوليد الطاقة غير المصدر الاحفوري ( النفط ) ، وفرضت تلك الدول إجراءات تمنع استخدام المنتجات النفطية ( البنزين والديزل ) في محركات السيارات ومحطات ومولدات الكهرباء ، وتوقفت تلك الدول عن تكرير النفط ، بهدف حماية البيئة في إطار تنويع اقتصاداتها ، أو كنتيجة للتطور التكنولوجي الذي يفرز محركات وآلات وتكنولوجيا لا تعتمد على النفط والغاز ، وافضت هذه الإجراءات عن تدني طلب هذه الدول على النفط الخام وإنهيار أسعاره ، وما عام 2030 ببعيد؟ ماذا لو إنخفض الطلب على النفط الخام ، نتيجة لركود اقتصادي ، أو أزمة اقتصادية عالمية ، أو تغيرات مناخية ، أو حروب ، او أية أسباب اخرى ، مما يؤدي إلى تدهور اسعار النفط الخام وإنخفاضها إلى مستويات قياسية ، وتوقف إمداداته ( ولنا تجربة في أو آخر التسعينيات عندما إنخفض سعر برميل النفط إلى 9 دولار للبرميل ) ؟ ترى من أين يمكن للحكومة دفع مرتبات العاملين في القطاع العام التي تجاوزت الأربعين مليار دينار ومن المتوقع أن تصل الى 60 مليار دينار في ظل سياسات الحكومة الحالية ؟ وكيف سيتم دفع قيمة فاتورة الواردات السلعية السنوية ؟.
ماذا لو نضب النفط بعد ثلاثين أو أربعين أو حتى خمسين سنة من الأن ، واستمر نمط الإنفاق العام والبرمجة المالية المتبعة من قبل الحكومات المتعاقبة على نفس المنوال ، وظلت العقلية الريعية تسيطر على أسلوب إدارة الدولة واقتصادها ؟ لكم ان تتصوروا وضع الاقتصاد الليبي ومصير الاجيال القادمة ، والحياة في ليبيا حينئذٍ !!! الم يستوعب المسؤولون في ليبيا ماحدث ابّان ازمة الهلال النفطي والحروب التي شهدتها البلاد خلال الفترة 2014 – 2019 ، حيث وصل حجم الدين العام المحلي إلى أكثر من 130 مليار دينار ، نتيجة التمويل بالعجز في الميزانية العامة للدولة ، وعندما تجاوز سعر صرف الدولار في السوق السوداء حاجز الثمانية دينارات ، وإنخفضت احتياطيات النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي نتيجة عجز ميزان المدفوعات .
تُرى الى متى نظلّ نتجاهل خطورة الإعتماد على النفط مصدراً وحيدا للدخل ، ونؤجل البدء في تنويع مصادر الدخل ، والتخلص من ثقافة الغنيمة والطبيعة الريعية للاقتصاد ؟ لقد صار هدف تنويع مصادر الدخل أمراً حتمياً ، لجأت إليه العديد من الدول النامية وحتى الدول المتقدمة .
وهدف التنويع لا يقتصر على الدول النفطية فقط وإنما تعنى به ايضاً الدول الصناعية والدول النامية الأخرى غير النفطية ، وهو من ضمن الاهداف التنموية ( 2030 ) التي تبنتها الامم المتحدة وفي ليبيا صار هذا الهدف مطلباً حيوياً وضرورة من ضرورات إستمرار الحياة على هذه الأرض ، ومن حق هذا الجيل الحاضر والاجيال القادمة .
ولكن ماهو السبيل الى ذلك ؟ لا بد من استشراف المستقبل ، وتغيير أسلوب التفكير في إدارة الموارد الاقتصادية ونمط تخصيص الموارد المتاتية من تصدير النفط ، وإغتنام فرصة تحسن أسعار النفط ، في السعي لإيجاد مصادر دخل إضافية ولابد من التخلص من الأسلوب العقيم في وضع وإعداد الميزانية العامة للدولة ، التي صارت ميزانية للانفاق الاستهلاكي ، ولا تتضمن أهداف واضحة لزيادة تكوين رأس المال ، ولا تعتمد روافد أخرى للتمويل غير الدخل المتولد من تصدير النفط .
لا بد من وضع أولويات للانفاق العام ونمدجته ، واشراك القطاع الخاص في التمويل والتنفيذ ، وتبني صيغ جديدة معروفة وشفافة لتنفيذ المشروعات وتمويلها لا بد من التخلص من التشوهات والقيود التي يعاني منها الاقتصاد الوطني ولابد من وضع استراتيجية وطنية لتنويع الاقتصاد تنويعًا رأسيًا ، تسند مهمة إعدادها لمجلس من الخبراء والاقتصاديين والمتخصصين ، تفضي إلى خطة تعتمد بقانون ، و تطوير خارطة طريق تؤدي إلى بناء قطاعات اقتصادية إنتاجية يستفاد فيها من الموارد الاقتصادية الطبيعية الأخرى ( غير النفط ) في إيجاد مصادر للدخل تتصف بالاستدامة وتدعم النمو الاقتصادي .
وفي هذا الإطار لابد من القيام بالخطوات الثلاثة الأتية لتنفيذ هذه الاستراتيجية : – إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي . – القيام باصلاحات هيكلية . — تنفيد برنامج للاصلاح الاقتصادي والمالي . إن تنويع مصادر الدخل في ليبيا أمراً ليس مستحيلاّ ولكنه يحتاج إلى إرادة سياسية ، حيث تتوفر فرص واعدة لتحقيق هذا الهدف ، ويمتلك الاقتصاد المقومات التي تؤهله ليكون اقتصاداً متنوعاً ، بعد القيام بالخطوات الثلاثة المنوه عنها ، ومواجهة التحديات المؤسساتية والتغلب عليها . إذ لم يعد هناك مجال لتضييع وهدر دخل النفط بالأسلوب الذى إستمر وترسخ طوال العقود السبع الماضية . ولما لا…….؟.
الا تمتلك ليبيا أهم موقع جغرافي جنوب البحر المتوسط وشمال افريقيا يؤهلها لان تكون نقطة الوصل بين قارة افريقيا وبقية قارات العالم ، ومركزاً عالميا لتجارة العبور الا تمتلك ليبيا أطول شاطئ على البحر المتوسط يتجاوز 2000 كيلومتر ، الا تتمتع ليبيا بأعلى معدلات سطوع الشمس التي تؤهلها لإنتاج الطاقة الشمسية والاكتفاء منها وتصديرها للخارج ، الا تمتلك ليبيا الخامات الطبيعية التي تؤهلها لإمتلاك ميزة نسبية في إنتاج مواد البناء وبعض الصناعات التصديرية والمواد الصحية والصناعات الزجاجية ، الا تمتلك ليبيا المقومات الذاتية التي تجعلها في صدارة الدول السياحية ( سياحة ثقافية وتاريخية ، سياحة صحراوية ، وسياحة ترفيهية ) . كل هذه المجالات وغيرها تعتبر مصادر واعدة لتوليد النقد الاجنبي ، ومصدر جذب للاستثمار الاجنبي . في ليبيا يمكن تطوير المواني القائمة ( ميناء مصراتة ، ميناء الخمس ، ميناء بنغازي ، ميناء المريسة ، ميناء طبرق ، مينا سرت ) ليكون واحد منها أو أكثر منطقة حرة واعدة ، تفوق جدواها ومردودها منطقة جبل علي في إمارة دبي ، تلك المنطقة التي انطلقت منذ السبعينيات بتكلفة استثمارية بلغت اقل من مليار دولار ، وعوائدها اليوم تشكل رافدا مهما للناتج المحلي الإجمالي في دولة الامارات العربية المتحدة ، وتعتبر أحد المصادر البديلة للدخل المتولد من تصدير النفط . لماذا لا يستفاد من تجارب الدول الاخرى ؟ الم يتم تحويل مسار التجارة الدولية من المرور عبر رأس الرجاء الصالح الى المرور عبر قناة السويس ، بعد حفر القناة ، التي اختصرت الطريق ووفرت الكثير من التكاليف ، وقد تم مؤخراً توسيع هذه القناة بهدف تنويع مصادر الدخل بالنقد الأجنبي وزيادته في مصر ، حيث صارت القناة الجديدة تدر دخل سنوي إضافي يتجاوز 6 مليار دولار .
في بعض مجالات الاستثمار ، لن تكون ليبيا في حاجة لتحمل أية تكاليف استثمارية لو فتح المجال أمام الاستثمار الاجنبي ، الذي سيتولي توفير التمويل الكامل للمشروع وضمان تقديم عائد سنوي للحكومة مقوما بالنقد الاجنبي ، وهو الأسلوب الذي لجأت أليه الكتير من الدول التي نجحت في جذب الاستثمار الأجنبي لاراضيها ، بعد مراجعة القانون رقم ( 9 ) بشان تشجيع الاستثمار .
ولن تكون الحكومة في حاجة لتمويل وتنفيذ الكتير من المشروعات لو فتح المجال أمام القطاع الخاص الوطني وتوفير الحوافز اللازمة له واشراكه في تحقيق التنمية الاقتصادية .
إن الإصرار على إتباع الأساليب الحالية المتبعة في إعداد الميزانية العامة للدولة ، الموجه بالموارد ، وإغفال إعداد ميزانيات تعتمد على المبادرات والفرص والبرامج ، وغياب الإرادة السياسية الوطنية ، والتمسك بأسلوب التفكير التقليدي في إدارة الاقتصاد وتخصيص الموارد ، والفساد الذي انتشر ، لن يخرج ليبيا من طبيعتها الريعية ولن يخلص المجتمع من ثقافة الغنيمة ، ولن يحرر الاقتصاد من هيمنة الدخل المتولد عن تصدير النفط ، ولن يشهد الاقتصاد الليبي ، في ظله ، استقراراّ يضمن استدامة التنمية الاقتصادية وتعزيز أفاق النمو الاقتصادي ، ويراعى حقوق الاجيال القادمة لذا وجب العمل على التخلص من هذه المثالب والسلبيات والمعوقات ؛ وليبدأ العمل من اليوم .