| مقالات اقتصادية
أبوسنينة يكتب: هل تمارس مؤسسات الدولة المالية والنقدية والتجارية تطبيق أية سياسات اقتصادية حقيقية ممنهجة!!
كتب الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة” مقالاً قال فيه:
يحاول الكثير من الاقتصاديين والمحللين تقييم الإجراءات التي تتخذها المؤسسات المالية والنقدية والاقتصادية بصورة عامة من وقت لأخر، وينتقدون تلك الإجراءات ويقترحون بدائل لها، وفي بعض الأحيان يؤكدون عليها ويشيدون بها كما لو أنها سياسات اقتصادية واضحة المعالم والأهداف، وأنها قد وضعت وفقاً لمنهجية اقتصادية واضحة، وتستند لإطار نظري صحيح، وتتوافق مع أوضاع الاقتصاد الليبي وتعالج مشاكله الحقيقة.
هناك جملة من الأسئلة التي تفرض نفسها في هذا الإطار، وهي: هل ما تتخذه المؤسسات المعنية من إجراءات وما يصدر عنها من قرارات تمس بعض جوانب الحياة الاقتصادية، وتشغل بال المهتمين، تمثل في الواقع سياسات اقتصادية حقيقية متكاملة الشروط والأركان؟ وهل يعي القائمين عليها تلك الشروط، وقد تدربوا عليها ويجيدون صياغتها، وعلى معرفة واطلاع على تجارب الدول الأخرى التي طبقتها، ولهم إلمام بالأطر النظرية لهذه االسياسا؟ وهل تراع السلطات المعنية ضرورة استخدام وتوجيه السياسة الاقتصادية المناسبة لمعالجة المشكلة المناسبة، وأن الاستخدام الخاطئ لأدوات السياسة الاقتصادية يرتب مشاكل جديدة على حساب مصلحة المواطن والاقتصاد الوطني، وأن أدوات السياسة الاقتصادية قد تتضارب آثارها ونتائجها مما يستوجب التنسيق بينها؟ وهل لدى مؤسساتنا المعنية مستشارين اقتصاديين مؤهلين ومدربين تدريباً عالياً ( trained economists ) يعتمد عليهم ويتم الرجوع إليهم في صياغة هذه السياسات قبل تنفيذها ؟ وهل هذه السياسات شفّافة وواضحة الأهداف وقابلة للتقييم ولها ارتدادات أمامية وخلفية يدركها متخذ القرار، ويتم بالفعل تقييمها واستجواب المؤسسات التي تنفذها بشأنها؟ وهل السياسات التي تطبقها مؤسساتنا تصنف ضمن السياسات الاقتصادية المتعارف عليها، التي تمارسها بحرفية المؤسسات المالية والنقدية في مختلف دول العالم ؟ لاشك في أن الحكم على هذه السياسات ينبغي أن يستند إلى جملة من المعايير الحاكمة، وأن نتائج تطبيق هذه الإجراءات والسياسات إن صح التعبير، هي الأهم وبأية تكلفة ؟.
لنستعرض باختصار بعض السياسات الاقتصادية المتعارف عليها للوقوف على مدى تطبيق أي منها في حالة الاقتصاد الليبي، وهل ما تمارسه مؤسساتنا المالية والنقدية يمكن أن يندرج من ضمنها ؟ ومن هذه السياسات ما يلي :
– إدارة الدين العام ، جدولته وحساب خدمة الدين ، ضوابط اقراره وأوجه استخدامه وتحديد آثاره ، ولهذا الموضوع جوانب قانونية ومحاسبية وإدارية.
– التمويل باستخدام سندات الخزانة ، تحديد سعرها ، وحدودها ودور المصارف التجارية فيها ، وكيفية إدارتها من قبل المصرف المركزي .
– استهداف التضخم ( inflation targeting ) وعلاقة هذه السياسة بسياسة سعر الصرف وسعر الفائدة وعرض النقود ، في إطار سياسة نقدية واضحة ذات أهداف محددة ومعلنة .
– التمويل باستخدام الصكوك الإسلامية وسوقها وكيفية إصدارها وأوجه استخدامها.
– معالجة عجز ميزان المدفوعات باستخدام سياسة تعديل سعر الصرف ، في إطار نظام سعر الصرف المرن والمحافظة على سعر صرف توازني .
– التأثير في الميزان التجاري ( سياسة تجارية ) باستخدام الرسوم الجمركية ، إما للحد من الواردات أو زيادتها ، أو تشجيع الصادرات ، وحماية الإنتاج المحلي ، وتقدير مدى نجاح هذه السياسة ، وتأثير تغيير نسبة الرسم أو التعريفة على كل من المنتجين والمستهلكين ( تكاليف الإنتاج والمستوى العام للأسعار ) ومستوى الدخل ( أثر الاحلال وأثر الدخل ) وعلاقة الرسوم الجمركية بمرونة الطلب على السلع المستهدفة ، قبل تنفيد هذه السياسة .
– استخدام السياسة الضريبية ( زيادة أو تخفيض ضريبة الدخل) بهدف تنمية إيرادات الخزانة العامة ، أو بهدف تخفيض الإنفاق الاستهلاكي للتأثير في الطلب الكلي ، أو بهدف إعادة توزيع الدخل ، في إطار سياسة مالية واضحة المعالم والأهداف .
– التوسع في الإنفاق العام أو تقليصه في إطار السياسة المالية ، للحد من التضخم وللتأثير في معدل البطالة وزيادة معدلات الاستخدام بهدف زيادة الناتج المحلى الإجمالي ، ودعم النمو الاقتصادي .
– استخدام سعر العائد على شهادات الإيداع لدى المصرف المركزي وسعر الإقراض ليلة واحدة ، وكذلك سعر إعادة الخصم لدى المصرف المركزي للتأثير على السيولة في الاقتصاد، في إطار ما تقوم به لجنة السياسة النقدية لدى المصرف المركزي .
– استخدام سياسة السوق المفتوحة ، عندما يقوم المصرف المركزي ببيع وشراء الاوراق المالية ، في اطار ما يطبقه من سياسة نقدية للتأثير على حالة الائتمان في الاقتصاد والتأثير في عرض النقود .
– استخدام وإدارة سوق ما بين المصارف (interbank lending market ) بهدف توفير السيولة للمصارف التي يوجد بها نقص في الأصول السائلة والتخلص من فائض السيولة لدى المصارف التي لديها فائض ، وكذلك تحديد العائد على الإقراض في إطار السياسة النقدية التي يمارسها المصرف المركزي .
– إدارة الدعم ( بأنواعه وأوجهه المختلفة ) باستهداف المستحقين له فقط ، وتنظيمه إلكترونياً ، وترشيده وتقنين معدلاته ومتابعة آثاره ومعالجتها ، في إطار السياسة الاقتصادية (المالية والتجارية ) .
– استخدام سياسة التيسير الكمي ( quantitative easing ) كسياسة نقدية غير تقليدية لمعالجة الانكماش الاقتصادي ، في ظروف الأزمات ، عندما يقوم المصرف المركزي بإصدار النقود وشراء سندات الخزانة ، بهدف تخفيض سعر الفائدة وزيادة السيولة في الاقتصاد.
– توجيه الاستثمارات ، بهدف تكوين رأس المال الثابت ، وتخصيصها رأسياً بهدف تنويع الاقتصاد والتخلص من هيمنة الإيرادات النفطية على الميزانية العامة للدولة وكمصدر وحيد للدخل ، في إطار سياسة إعادة هيكلة الاقتصاد ، لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز النمو الاقتصادي .
– أعمال سوق الأوراق المالية في تعبئة المدخرات والموارد المالية وتوجيهها نحو الاستثمارات الأكثر إنتاجية بما يعزز النمو الاقتصادي .
هذه السياسات وغيرها من السياسات الاقتصادية الأخرى هي التي تطبقها المؤسسات المالية والمصارف المركزية في الدول الأخرى ، وتعمل على تطوير وبناء قدرات العاملين بها لضمان حسن إدارتها ، وتسعى تلك الدول للحصول على المساعدة الفنية من المؤسسات الدولية المختصة وتستعين بها في رسم وتطبيق هذه السياسات .
فهل تطبق مؤسساتنا المالية والنقدية أي من هذه السياسات ؟ علماً بأن الاقتصاد الليبي كان ولايزال يعاني من مختلف المشاكل الاقتصادية ، وفي حاجة لأعمال السياسات الاقتصادية المناسبة، ومن بين المشاكل التي يعاني منها، ما يلي : التضخم ، البطالة ، استفحال الدين العام ، عدم استدامة المالية العامة (تدبدب أوضاع الميزانية العامة للدولة بين العجز والفائض) وهيمنة حالة العجز .
عدم استقرار وضع ميزان المدفوعات (بين العجز والفائض)، والاعتماد على مصدر وحيد للدخل لتمويل الميزانية العامة ، واقتصاد غير متنوع ، والانكشاف الحاد على العالم الخارجي، وتراجع معدل النمو الاقتصادي الحقيقي باستثناء النفط، والدعم السلعي (وقود ومحروقات وكهرباء) غير المرشّد، وعبئه على الميزانية العامة ، وتهريب الوقود، ونقص السيولة لدى بعض المصارف وعجزها عن مواجهة طلبات المودعين لديها ، وتكدس السيولة لدى بعض المصارف الأخرى، كذلك تراجع معدلات الائتمان وتراجع دور المصارف التجارية في الوساطة المالية، واستمرار السوق السوداء للنقد الأجنبي واللجوء إليها لتلبية بعض الأغراض الشخصية والتجارية، استمرار حالة الانكماش التي يعاني منها الاقتصاد الوطني وضعف دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي .
إن المتتبع لواقع الاقتصاد الليبي والمشاكل التي يعاني منها، والإجراءات التي تقرها وتنفذها المؤسسات المعنية بالسياسات الاقتصادية المختلفة من وقت لآخر ، يجدها لا تتعدى بعض الإجراءات التنظيمية والقيود الكمية والكيفية (الحظر والمنع أو السماح والاِذن) من جهة ، وتوزيع الريع ، المتأتي من تصدير النفط والغاز ، في شكل مرتبات وأجور ، ودعم ، ومصروفات تسييريه للحكومة ومؤسساتها ، ومصروفات بالنقد الأجنبي لتغطية بعض الالتزامات الخارجية للدولة والقطاع الخاص في حدود المتاح منه، ولم تختبر بعد قدرة هذه المؤسسات على إقرار وتنفيذ سياسات اقتصادية حقيقية أصيلة وشفافة ومتسقة الأهداف وقابلة للتقييم والمتابعة على النحو المبين في هذه المقالة.