Skip to main content
" أبو سنينة" يكتب: المفاضلة بين زيادة المرتبات وانخفاض الأسعار: الأولويات والتداعيات
|

” أبو سنينة” يكتب: المفاضلة بين زيادة المرتبات وانخفاض الأسعار: الأولويات والتداعيات

كتب: الخبير الاقتصادي محمد أبو سنينة

تحريك ملف المرتبات من قبل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، سلاح ذو حدين ففي الوقت الذي يعتبر تنفيد القوانين الصادرة عن مجلس النواب ، التي تقضي بزيادة مرتبات بعض القطاعات ، مثل القانون رقم 4 لسنة 2018 الخاص بمرتبات العاملين بقطاع التعليم العام أو قانون الجامعات رقم 4 لسنة 2020 ؛ أمر واجب النفاد تلتزم الحكومة بوضعه موضع التنفيذ ، إلا أن هذا الأمر يصطدم بعاملين أساسيين هما ؛ مدى توفر الموارد المالية الكافية للتنفيذ الفوري لزيادة المرتبات التي تضمنتها هذه القوانين ، في ظل تضخم بند المرتبات بالميزانية العامة للدولة ، والتي تجاوزت نسبتها حاجز 50% من إجمالي الإنفاق العام الفعلي ؛ ومدى عدالة الاجراء في حد ذاته ، عندما تقتصر هذه الزيادة على قطاعات دون غيرها وهما أمران كان على السلطة التي أصدرت هاذين القانونين مراعاتهما .

والنتيجة هي ما نشهده اليوم من احتجاج بعض القطاعات الأخرى ومطالبتها بزيادة المرتبات، دون الإخلال بحق المعلمين وأعضاء هيئة التدريس الجامعي في تحسين أوضاعهم والحصول على حقوقهم .

وقد أنتهى الأمر إلى إضراب مفتوح لأعضاء هيئة التدريس الجامعي، لحقه اليوم إضراب مفتوح أعلنت عنه نقابة العاملين بقطاع الصحة ، وقد تتبعه مطالبات من العاملين في قطاعات عامة أخرى ، مما قد يؤدي إلى تقويض منظومة الخدمات  بأكملها .

وبذلك فقد تعطل أهم مرفقين يقدمان خدمة للمجتمع باكمله ( التعليم الجامعي والصحة العامة ) مما يؤدي إلى مزيد التدهور في مستوى الخدمات العامة ، التي تعاني أصلاً من الكتير من المشاكل ، مما يعزز استمرار حالة عدم الإستقرار التي تشهدها البلاد . 

وهذا في حد ذاته كافٍ للاضرار بسمعة الحكومة ويضعها في موقف لا تحسد عليه ، ان لم يعرضها للمساءلة ، وهي التي تعتقد أن تنفيد الزيادة في مرتبات بعض القطاعات سوف يدعم شعبيتها ويعزز فرص استمرارها في السلطة بعد 24 ديسمبر 2021 ، فضلًا عن الضرر الذي يلحق شريحة عريضة من المواطنين وهم طلبة الجامعات والشعب الليبي بأكمله ممن يترددون على المستشفيات والعيادات العامة لتلقي العلاج .                                

وكما أوضحت بأن تنفيد القوانين يعتبر أمر ملزم ، وأن الفئات التي شملتها الزيادة في المرتبات جديرة بهذه الزيادة التي  تأخرت كتيراً ، ولكن هناك قطاعات أخرى في الحكومة في حاجة لزيادة مرتباتها .

وإذا كانت القوانين التي تصدر هي أداة تنفيد السياسات العامة والغطاء القانوني لهذه السياسات ، فقد كان ينبغي أن تؤسس هذه السياسات على رؤية واضحة تاخذ بعين الاعتبار الإمكانيات والموارد المادية المتاحة واللازمة ( القابلية للتنفيذ ) وأن تعني المنظومة القانونية  ( مثل قانون زيادة مرتبات المدرسين بالتعليم العام ) بتحقيق العدالة الاجتماعية ( تكافؤ المعاملة ) حيت لا زالت الكتير من القطاعات العامة تخضع لاحكام القانون رقم 15 بشأن المرتبات الصادر سنة 1981 وما تكتنفه من مثالب تناولتها العديد من الدراسات في السابق ، حيث لم تعد تلك المرتبات كافية لمواجهة الأعباء المعيشية ، بحكم الزيادة الطبيعية في الأسعار من جهة ، ونتيجة لسياسات سعر الصرف التي تغدي إرتفاع أسعار السلع المستوردة من جهة أخرى .

  وقد كان الاجدى إقرار قانون جديد ينظم مرتبات العاملين بالدولة ( المرتبات التي تقوم بتمويلها الخزانة العامة ) ، وهنا أقصد إصدار قانون متكامل ، بديل للقانون رقم 15 لسنة 1981 ، وبديل للقوانين القطاعية الخاصة ، وليس مجرد جدول مرتبات جديد ، كما يسعى  إليه البعض ، والذى أراه غير كافٍ ، نظرا لأن قانون المرتبات الجديد المنشود ، الذي  تخضع له كافة القطاعات العامة في الدولة ،  ينبغي أن يعكس سياسة الدخل التي تعمل الحكومة على تنفيذها ، ويكفل العدالة ( المرتب المتساوي للدرجة الوظيفية التي يسكن عليها الموظف في كافة القطاعات العامة ) ويلغي الجداول الخاصة للمرتبات في بعض القطاعات ، ويوفر الحوافز المناسبة لزيادة انتاجية الموظف .

كما أن العلاوة السنوية ينبغي أن تكون متساوية للدرجة الوظيفية المساوية في كافة القطاعات ، والتي ينبغي ان تتحدد قيمتها السنوية وفقا لمعدل الإرتفاع في تكلفة المعيشة المعبر عنها بمعدل الزيادة في المستوى العام للاسعار في الاقتصاد الوطني .

والجدير بالذكر أن إعداد مشروع لقانون المرتبات هو  عمل فني وشأن اقتصادي وقانوني صرف ، تختص به مراكز الابحاث الاقتصادية  وبيوت الخبرة ، ولا ينبغي ان يكون شأناً سياسياً

كما ينبغي الاّ يغيب عن تفكير  متخذي القرار ، أن تعديل المرتبات أو التاثير في صافي الدخل الذي يتحصل عليه الموظف يعتبر من ضمن السياسات المالية التي تنفذها الحكومة ، والتي لا ينبغي أن تتحدد بمعزل عن السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف ، في دولة  ريعية تدير سعر صرف عملتها في إطار نظام سعر الصرف الثابت ، من منظور تكامل السياسات الاقتصادية واهمية التنسيق بينها .

وأن يكون تنفيد هذه السياسة وفقا لإطار زمني إطار زمني مناسب تلتزم به الحكومة ولو اسقطنا هذه الاعتبارات على حالة الاقتصاد  الليبي ، نلاحظ بوضوح غياب التنسيق بين السياسات الاقتصادية المختلفة ، ففي الوقت الذي يعاني المواطن حالياً من آثار تخفيض سعر صرف الدينار الليبي ، ولجوء الحكومة الحالية والحكومة التي سبقتها إلى استغلال سياسة سعر الصرف لتمويل الميزانية العامة للدولة ، وما افضت إليه تلك السياسة من تضخم الإنفاق العام وتدني انتاجيته ، نجد أن    الحكومة تميل إلى زيادة الدخل النقدي للموظف من خلال تحريك ملف المرتبات ، بالإضافة إلى برامج الدعم الأخرى التي اطلقتها الحكومة والزمت نفسها بها  ، مما يجعل من هدف مراجعة سعر صرف الدينار الليبي بقصد دعمه ، آمر بعيد الاحتمال.

وإذا ما تم اللجوء إلى تعديل سعر صرف الدينار الليبي ، عند مستوىً بعيد عن مستواه التوازني ، فستجد الحكومة نفسها في حالة عجز عن الوفاء بالتزامتها ، بسبب التوسع في الإنفاق العام والمعالجات غير المناسبة للمرتبات ، وغياب التنسيق المسبق بين السياسة المالية والسياسة النقدية . 

كما أن إقرار مرتبات عالية في اقتصاد يتولّى فيه القطاع العام توفير فرص عمل لحوالي 30% من السكان ، يجعل من الصعوبة بمكان قيام القطاع الخاص بدور مهم في توفير فرص عمل للباحثين الجدد عن العمل لعدم قدرة القطاع الخاص على منافسة مرتبات القطاع العام ، ومن تم الحد من دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي .   

ومن الناحية الاقتصادية ، يستفيد المواطن من إقرار سعر صرف  توازني يكتسب فيه الدينار الليبي قيمة تدعم قوته الشرائية ، أكتر من استفادته من زيادة مرتبه ( زيادة  دخله النقدي )  لأن الإرتفاع في الأسعار سوف يلتهم  تلك الزيادة في الدخل النقدي ، نظراً لأن الأسعار ترتفع بوتيرة أعلى من وتيرة الزيادة في الدخل النقدي نتيجة لزيادة الطلب الكلي في الاقتصاد ، ومن تم الدخول في حلقة مفرغة للمفاضلة بين زيادة المرتبات وزيادة الأسعار .

وقد أوضحت في مقالات سابقة أن وضع أولويات لعمل حكومة الوحدة الوطنية والالتزام بها ، خلال الفترة الزمنية المحدودة المتاحة امامها ، والتي بدأت في فبراير وتنتهي في ديسمبر 2021 ، يعتبر أمر في غاية الأهمية ، لتفادي الوقوع في مختنقات قد تعجز الحكومة عن تجاوزها في الوقت المحدود المتاح أمامها .

وها هي القطاعات العامة القطاع تلو الآخر ، تطالب بزيادة مرتباتها وتعلن نقاباتها عن الدخول في اضرابات مفتوحة ، في الوقت الذي نحتاج فيه ، أكتر من أي وقت مضى، إلى دعم جهود الإستقرار واستدامة المالية العامة للدولة في إطار الجهود الرامية لقيام الدولة .

مشاركة الخبر