الخبير المصرفي “محمد أبو سنينة” يكتب مقالاً حول جدلية تكليف محافظاً للمصرف المركزي، حيث قال:
جدل وخلاف كبيرين حول شخص محافظ المصرف المركزي، جدل لا يخلو من العناد والتعنت والتحدي، حتى كاد أن ينتهي بمواجهة مسلحة !!! وما كان لهذا الخلاف لينشأ أصلا لو ادرك الجميع أسس وظيفة المحافظ ومهامه وفقاً لأفضل الممارسات، وحكّموا العقل، ووضعوا مصلحة الدولة الليبية واقتصادها فوق كل إعتبار، ولو أحتكم الجميع لقانون المصارف الذي ينظم هذه المسألة بعيداً عن التجاذبات السياسية، ورغم أن الوظيفة شبه شاغرة لعدة سنوات مضت، وفي غياب تام لمجلس الإدارة، تعرض خلالها الاقتصاد الوطني لأزمات متتالية، إلا أنها فجأة صارت محل إهتمام الجميع، نلاحظ اليوم أن كل طرف يدفع في إتجاه إختيار الشخص الذي يعتقد أنه سيضمن له التمويل أو ينفد له طلباته، ويحقق رغباته، ويسير في ركابه، وهو الأمر الأشد خطورة، والذي يجعل من المصرف المركزي مؤسسة إقصائية، مما قد يعمق أزمة الاقتصاد والإنقسام، ويكرس الفشل في تحقيق أهداف السياسة النقدية وهذا السلوك يتعارض مع أسس إدارة الأموال العامة في البنوك المركزية ، وينحرف بوظيفة المحافظ عن سياقها القانوني الصحيح ، ويشكل مفسدة وتدخل سافر في اهداف ومهام المصرف المركزي، ويعرض المصالح الاقتصادية للدولة للخطر .
المحافظ المحايد الذي يحترم وظيفته، ينبغي أن لا يقدم وعوداً لأحد سوى الإلتزام بأحكام قانون المصارف والمحافظة على احتياطيات الدولة وتنميتها، ولا يلتزم إلا بإحترام الدستور والقانون وأن يقوم بتنفيذ أذونات الصرف التي ترد إليه من وزارة المالية على مختلف أبواب الميزانية العامة المعتمدة والصادرة بقانون من السلطة التشريعية، وحسب الأرصدة المتوفرة والمتاحة لكل منها في حسابات وزارة المالية التي تديرها لدى المصرف المركزي إذاً الذي يوجّه صرف الأموال لمختلف أوجه الصرف، إذا صدقت النوايا، هي وزارة المالية ممثلة في وزيرها، وهي التي يجب أن تلتزم بعدالة التوزيع، وليس محافظ المصرف المركزي، ولا ينبغي للمحافظ أن يقحم نفسه في هذا الأمر بمعنى آخر الحكومة هي التي توجه الإنفاق وتنظمه والحال هكذا لا ينبغي أن يشترط على المحافظ، عند النظر في تعيينه ، ضمان توجيه الأموال وفقاً لرغبات أي طرف من أطراف الصراع ، أو حجبها عن طرف معين لصالح طرف آخر ، خلافاً لما يرد في الميزانية العامة للدولة التي تحال إليه، أو أن يتوسع في الصرف فوق ماهو مقرر بالميزانية تلبية لطلبات الحكومة ولا يُقدم المصرف المركزي قروضاً للحكومة لتغطية العجز الذي قد يطرأ على موارد الميزانية العامة، إلاّ في شكل سلف موقتة ، بضمانة الإيرادات السيادية غير النفطية التي ترد إلى حسابات وزارة المالية لديه ، بحيث تسوى السلفة في نهاية السنة المالية وعلى المحافظ الإلتزام بهذا المبدأ ، وأن يتحلى بالحياد التام ، لأن المصرف المركزي هو مصرف الدولة بكاملها وهو الضامن لاستقرارها واستدامتها ، ولا سلطان لرئيس أية حكومة على المحافظ في إدارته للمصرف والمحافظ هو المسؤول عن حسن إدارة الأموال والاحتياطيات أمام السلطة التشريعية ، وأن يلتزم بتنفيد السياسة النقدية وسياسة استثمار احتياطيات المصرف التي يضعها ويقرها مجلس الإدارة في إطار السياسة العامة للدولة، ولا ينفرد باقرارها وينبغي أن يخضع المحافظ للمساءلة الدورية وأن ينشر بيانات الإنفاق بشفافية تامة ، وان يحرص على إنجاز مراجعة واعتماد الحسابات الختامية للمصرف المركزي من قبل مراجع خارجي في نهاية كل سنة مالية مهمة المصرف المركزي الحد من التضخم والمحافظة على استقرار قيمة العملة الوطنية وتوفير السيولة لمختلف الأغراض ، والمحافظة على سلامة وملاءة القطاع المصرفي ، وهي المهام التي يجب ان يحرص من يعيّن المحافظ ، على تحقيقها .
وينطبق نفس القول على تشكيل مجلس إدارة المصرف المركزي ، والذي ينبغي أن يحرص المحافظ عند إقتراح أعضاءه على أن يكونو من المختصيّن في العلوم الاقتصاديّة والمالية وممن لديهم الخبرة الكافية والقدرة على إقتراح ورسم السياسات النقدية والقدرة على إقرار تطبيق السياسات الكفيلة بإخراج الاقتصاد من أزمته والحد من التضخم ، وإدراك العلاقة بين السياسة النقدية والسياسة المالية ، ليكونوا سندا وداعما للمحافظ في تحقيق مهام المصرف المركزي ، وأن يحولوا دون قيام المحافظ بالإنحراف بمهام المصرف عن سياقها القانوني هذا يعني أنه لا ينبغي أن يخضع إختيار أعضاء المجلس لإعتبارات جهوية أو محاصة أو يكون اختيارهم استجابة لضغوط أو إرضاء مراكز قوة وينبغي أن يدرك أعضاء مجلس الإدارة أنفسهم أنهم مسؤلون ، وليسو بمنأى عن المساءلة القانونية في حال الفشل في أعمال السياسة النقدية المناسبة والسليمة، ومن نافلة القول أن وجود حكومتين منقسمتين في دولة واحدة يجعل من قيام المصرف المركزي بمهامه على الوجه الأكمل مهمة شبه مستحيلة .
وفي الدول التي تلتزم بأصول المصرفية المركزية والحوكمة، والتي تحرص على استقرار اقتصاداتها قد تتبدل فيها حكومات تمثل أحزاب سياسية، ويتبدل روؤساء دول، ويظلّ محافظ المصرف المركزي في مكانه لأسباب ترتبط بكفاءته ومهنيته وحياده ، ولا يجري تغيره ، إلاّ بإنتهاء مدته المحددة بالقانون أو في حالة مخالفته لضوابط العمل أو الشك في نزاهته ، أو فشله في تحقيق الاستقرار في المستوى العام للأسعار أو التضخم أو لممارسات تتصف بالفساد وعدم المسوولية وقد تضطر السلطة التشريعية لإنهاء أعمال المحافظ وإعفاءه من وظيفته حتى قبل أن تنتهي فترة ولايته المحددة بالقانون إذا تبث تورطه في ممارسات فساد أو أنحرف بالمصرف عن وظائفه الأصلية أو عرّض اقتصاد الدولة لمخاطر تهدد مستقبلها فلا مجال لتعيين محافظ أو مجلس إدارة على أسس من المحاصصة الجهوية ولا مجال لإلزام المحافظ بتقديم ضمانات لأي طرف، ولا مجال أيضاً لتعيين محافظ لا يمتلك مقومات ومتطلبات الوظيفة حفاظا على سلامة واستقرار الأوضاع الاقتصادية والنقدية، ولا مجال للمساومة على هذه الوظيفة إذا كنّا حريصين على سلامة حاضر ومستقبل الاقتصاد الوطني، من يكلف محافظاً للمصرف المركزي ينبغي أن يضفي على وظيفة المحافظ هيبة واحتراماً ويكتسبها مكانة أمام الوظائف السيادية الأخرى لوجوده على رأس المصرف المركزي، ولا يعوّل هو على الوظيفة لتجعل منه شخصية تحضى بالإحترام والتقدير وينبغي إلا يغيب عن أذهان من يقفون وراء تنصيب محافظ معيّن للمصرف المركزي دون سواه ومجلس إدارته أن ليبيا ليست جزيرة معزولة عن العالم الخارجي (على غرار جزيرة روبنس كروزو ) لا سيما وأن درجة انكشاف الاقتصاد الليبي على العالم الخارجي فوق نسبة 80 % ، وأن اقتصادها هش و يعتمد على مورد طبيعي واحد ، فاستمرار الصراع على وظيفة المحافظ قد ينتهي إلى الأضرار بمصالح الدولة وعلاقاتها المالية مع العالم الخارجي ويعرض استدامتها المالية للخطر والمساس بالمصالح العليا للدولة وشعبها،
إذا والحالة هكذا ، فقد كان الأجدى الحرص على توحيد المؤسسات التنفيدية بالدولة أولاً، بدلا من الحرص على تكليف محافظ على راس مصرف مركزي منقسم .