كتب المستشار الاقتصادي بمصرف ليبيا المركزي “محمد أبو سنينة” مقالاً بعنوان”مرتبات العاملين بالقطاع العام”.
يحظى موضوع مرتبات العاملين بالقطاع العام باهتمام كبير هذه الأيام على مختلف الصعد ، وقد جاء هذا الاهتمام ، رغم كونه متاخراً ، بعد أن تأزم الموقف وأن كل المؤشرات تنبىء بعدم قدرة الحكومة على الاستمرار في مواجهة الضغوط المصاحبة للمطالبة بزيادة المرتبات من جهة ، وتحقيق العدالة فيما بين موظفي القطاعات المختلفة في مستوى مرتباتهم من جهة أخرى .
جاء هذا الاهتمام الآن بالرغم من التحذيرات التي أطلقها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي مند عام 2017 وبما يفيد عدم إمكانية الاستدامة المالية للحكومة ، و كان الأجدى أن تتخذ السياسات المناسبة في متسع من الوقت لا أن تكون في شكل ردود أفعال ، المرتبات تشكل حوالي 55% من إجمالي الإنفاق العام و تشكل حوالي 76%من إيرادات النفط المحققة خلال فترة العشرة اشهر الأولى من هذه السنة المالية ، وجاء ذلك نتيجة لأن عدد العاملين الذين يتقاضون مرتبات من الخزانة العامة يصل إلى 1.8 مليون موظف ، وهو عدد يتجاوز كل المعايير المنظمة للاستخدام في القطاع الحكومي في مختلف الدول نسبة إلى عدد السكان وحجم القوى العاملة في الاقتصاد ، يصاحب ذلك تدني إنتاجية العاملين في القطاع العام نتيجة لتكدس العاملين في بعض المرافق الحكومية وخارج الملاك الوظيفي الذي تفتقره الكتير من المؤسسات العامة .
ولو بحثنا في جذور المشكلة وجدناها تعود للطبيعة الريعية للاقتصاد الليبي ، حيث النفط هو المصدر الوحيد للدخل في الاقتصاد والممول الرئيسي للميزانية العامة ، وقد اتبعت الحكومات منذ الاستقلال إلى يومنا هذا سياسات تتمحور حول شراء السلم الاجتماعي من خلال انفاق الإيرادات النفطية في شكل مرتبات واجور وإعانات ودعم عوضاً عن العمل على تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة ، وبذلك صارت الدولة ريعية عوضًا عن أن تكون دولة رفاهية ، وعندما انحسر دور القطاع الخاص وتقلصت مساهمته في النشاط الاقتصادي لم يجد الباحثون عن العمل ملاذاً أو مجالاً للعمل إلا في القطاع العام ، ومما زاد الأمر سوء وتعقيداً الزيادات الكبيرة التي طرأت على مرتبات بعض القطاعات العامة بفعل الإجراءات والقرارات التي اتخذتها تلك القطاعات بشكل فردي ، وفي غياب قانون ينظم المرتبات بشكل عام ، حتى صار العمل في القطاع العام غاية ، وتقاضي هذه المرتبات مطلباً وهدفاً لكل باحث عن العمل ، ولم يستطيع القطاع الخاص مجاراتها أو منافستها .
والأهم من تشخيص المشكلة وتحديدها بشكل واضح والإعتراف بها ، بالرغم من أنه يشكل نصف الحل ، البحث في السبيل لمعالجتها ، وعلى النحو الذى يحقق العدالة المنشودة ويوقف الهدر في الموارد ويراعي معايير الاستخدام الأمثل في القطاع الحكومي ، ويوفر الحماية الاجتماعية للباحثين عن العمل . وفي هذا الصدد يمكن للحكومة اتخاذ الإجراءات التالية :
_ اعادة حصر وتدقيق عدد من يتقاضون مرتبات من الخزانة العامة في كافة قطاعات ومؤسسات الدولة أو ما يعرف ب payroll ، حيث لوحظ وجود تضارب في الأرقام الواردة بمختلف التقارير .
_ عدم الاكتفاء بالرقم الوطني كمعرف للعاملين بهدف تحديد الازدواجية ومنعها ، بل العمل ايضاً على التأكد من صحة وجود الأشخاص الطبيعيين المعنيين وتبعيتهم للقطاعات المختلفة ، بحيت يتم استبعاد من يتبت عدم وجودهم في إطار مكافحة الفساد الذي يعتري الوظيفة العامة .
_ اعادة هيكلة الوظيفة العامة وعلى النحو الذي يبقي على الوظائف الأساسية والضرورية ضمن الملاكات الوظيفية المعتمدة وتحديد وحصر من هم خارج الملاك الوظيفي من بين من يتم حصرهم والتأكد من وجودهم .
_ وضع أسس ومعايير لتحديد قيمة المرتب للوظيفة المحددة بحيث يكون المرتب مقابل العمل الذى يقوم به الموظف وليس مقابل الوظيفة التي يشغلها .
_ إصدار قانون لمرتبات العاملين بالقطاع العام ياخد في الاعتبار طبيعة العمل أو الخدمة التي يقدمها الموظف ومسؤولياته ، ويراعى مستوى المعيشة ويستجيب للارتفاع في معدلات التضخم .
_ ايجاد نظام للتامين الصحي لكافة العاملين في القطاع العام يساهم في تمويله العاملون ويصدر بقانون من السلطة التشريعية .
_ الحد من التوسع في إنشاء الوحدات الادارية التي يتقاضى العاملين بها مرتبات من الخزانة العامة بما في ذلك تقليص عدد البلديات المستحدثة بعد عام 2011 .
_ ايجاد نظام للحكم المحلي يسمح للبلديات أو المحافظات من خلق موارد محلية وجباية رسوم ، وآلية لتقاسم الإيرادات السيادية الضريبية والجمركية مع الحكومة المركزية ، يغنى المحليات عن الاعتماد الكامل على الميزانية العامة ويتيح إمكانية خلق فرص عمل محلية تمول محلياً .
_ إعادة هيكلة الاقتصاد على النحو الذي يمكن القطاع الخاص من لعب دور أساسي في النشاط الاقتصادي ويخرج الحكومة من نشاطات انتاج السلع واستيرادها وتوزيعها ، وأن يتم تمويل جزء من الميزانية العامة ( المشروعات التنموية المتعلقة بالبنية التحتية وتنويع الاقتصاد ) بواسطة القطاع الخاص من خلال تبني أسلوب ( POT ) البناء والتشغيل والتحويل أو نقل الملكية .
_ ايجاد نظام للحماية الاجتماعية يكفل منح الباحثين عن عمل اعانة ، اثناء فترة البحث عن العمل ، أي اعانة مؤقتة ، بحيث يتم حصر وتسجيل الباحثين الجدد عن عمل وتوجيههم إلى الجهات التي تطلب وكلما توفرت فرص عمل وكل ما أمكن ذلك .
_ وضع خارطة طريق تتضمن تواريخ محددة لمراحل تنفيذ هذه الآلية للتعامل مع المشكلة وتحديد الجهات المعنية بالتنفيذ بشكل واضح ووضع آلية للمتابعة والتقييم .