كتب الباحث الاقتصادي “د. عبد الجليل أبو سنينة” لصحيفة صدى الاقتصادية مقالاً بعنوان “كيف تغول الفساد في سوق الدولار”
المرحلة الانتقالية الحالية التي تمر بها ليبيا كشفت عن عمق تأصل الفساد في الدولة، الخلافات السياسية والانفلات الأمني كان الباب الواسع لانتشار الفوضى وجرائم نهب المال العام، فتغول الفساد ساعد على انتعاش السوق السوداء، إلى جانب أزمة السيولة وتفاقم الغلاء المعيشي وتدهور الأوضاع الاقتصادية التي زادت في الضغوط على أصحاب الدخول المحدودة.
وفقاً لآخر تقرير لمنظمة الشفافية الدولية تعتبر ليبيا من أكثر ستة دول فساداً في العالم، حيث منحتها المنظمة 17 نقطة فقط من أصل 100 في النزاهة والشفافية، في مؤشر مدركات الفساد.
مع بداية 2015 بدأ الدينارالليبي يتجه نحو الانحدار المستمر في السوق السوداء بدافع تنامي ظاهرة ارتفاع الطلب على الدولار، الأمر الذي صاحبه زيادة في طباعة النقود من قبل مصرف ليبيا المركزي (طرابلس، مع الموازي بالبيضاء).
ومن خلال التشوهات التي تعاني منها ميزانية الدولة الليبية وخصوصاً التضخم بباب المرتبات مع العجز المالي المستمر في ظل عدم استقرار سياسي وأمني، أصبح الوضع يتجه للفوضى الاقتصادية وذلك لعدم وجود حكومة قادرة على السيطرة على مؤسسات الدولة الاقتصادية من خلال التحكم في المنافد الجوية والبرية, وذلك بتسخير قدرتها في الجباية الجمركية والضريبية ومكافحة التهريب بكافة أنواعه والسيطرة على أسعار السلع الأساسية ومتابعتها وتفعيل قوانين الجرائم الاقتصادية التي أضرت بالأمن القومي، بالأضافة إلى تدهور الوضع الإنساني والقصور والفساد في ملفات إدارة الدولة، أدى بطبيعة الحال الي انخفاض قيمة العملة الوطنية وإلى ضعف الأمن داخل المجتمع بالضغط على المواطن بأن يتبع أساليب ملتوية تصل إلى الجنائية لتلبية رغابته مقابل مواجهة موجة ارتفاع الأسعار، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على الحياة الاقتصادية وأثرت في الحياة الاجتماعية للمواطن الليبي وذلك في أن:
ضعف العملة يجعل تقديم الخدمات يشوبها الفساد ونقص الجودة لارتفاع الكلفة، وكذلك يرهق ميزانية الدولة بسبب ضعف دخل المواطن وحاجته للحكومة لتلبية متطلبات الحياة اليومية التي تقوم بنسبة كبيرة على الاستيراد من الخارج.
الفساد وسوء التنظيم في عقود سوق العمل وتزايد حجم الهجرة غير الشرعية والتي تشكل ضغط على الاقتصاد المحلي والأمن الاقتصادي وذلك بالاستفادة من دعم المحروقات والسلع الأساسية وتهريبها.
عدم قدرة المواطن على مجاراة الوضع الراهن مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية المعروضة ومطاردة السلع المدعومة التي يشوبها الفساد والقيود التي فرضت على المواطن في السحب النقدي (حساب جاري مرتبات).
الوضع الأمني في تأمين المصارف وفساد بعض الموظفين داخل هذا القطاع وانعدام الثقة في القطاع المصرفي، بالرغم من التوسع في إصدار النقود.
استغلال ضعاف النفوس من مدراء وموظفين بعض المصارف للمواطنين بالرشوة أو المساومة أو التعطيل لمنحة أرباب الأسر لمخصصاتهم بالسعر الرسمي من العملة الأجنبية.
تدخل المصرف المركزي لمحاولة حلحلة الإشكاليات القائمة وذلك بدعم حكومة الوفاق في إدارة الأزمة الاقتصادية، دعم المؤسسة الوطنية للنفط، العمل على إنهاء حالة الانقسام في المصرف المركزي، تفعيل نظام الدفع الإلكتروني من خلال المقاصة الإلكترونية والبطاقات والخدمات الإلكترونية للدفع المحلي، إطلاق مشروع برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي في ليبيا، دعم دور المصارف في الوساطة المالية وتحقيق الشمول المالي، وحث الحكومة لتحمل مسؤولية تأمين إرساليات العملة من مصرف إلى آخر وإلى كافة فروع المصارف، إدارة وتوجيه وتوزيع النقد الأجنبي المتاح وفقاً لسلم الأولويات:
منح النقد الأجنبي عن طريق البطاقات الإلكترونية الدولية لتخفيف الأزمة على الأسر.
التحويلات لغرض العلاج والدراسة.
فتح باب الاعتمادات برسم التحصيل.
غير أن هذه الإجرات صاحبها الكثير من الإشكال والذي أسس بطريقة غير مباشرة سوقا موازيا (سوداء) للدولة وللمصرف المركزي منها:
عوائق فنية أبرزها ضعف خدمات الاتصال وعدم توافر البنية التحتية أو جاهزية المصارف مع نقص الوعي للمواطن.
تعطل وظائف المصارف التجارية في الوساطة المالية.
تدهور القدرة الشرائية للدينار الليبي.
ارتفاع معدلات التضخم، حيث وصل إلى 28.5% خلال عام 2017، وانخفضت لاحقاً بفعل الإصلاحات الاقتصادية.
غياب الإفصاح وتقديم المعلومة للمواطن من قبل المصارف في برنامج مخصصات أرباب الأسر.
الفساد الذي صاحب التوريد في الاعتمادات المستندية.
لجوء صغار التجار والمواطنين للسوق الموازي للحصول على النقد الأجنبي وسحب مدخراتهم من المصارف مع الفشل في الحفاظ على السيولة.
عدم وجود قنوات رسمية للعملة الأجنبية (الكاش) مثل شركات الصرافة.
الفساد في برنامج الدعم وفشل صندوق موازنة الأسعار والرقابة على السلع في أداء مهامهم.
التآكل المتسارع لاحتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف ليبيا المركزي متأثرا بتذبذب إنتاج النفط والإسراف والفساد في نفقات الميزانية العامة للدولة.
النتيجة والمحصلة النهائية في ظل عدم وجود سياسة واضحة للدولة يعتمد عليها المصرف المركزي في وضع السياسات المناسبة للإصلاح الاقتصادي مع الانقسام السياسي وتدهور الأوضاع الأمنية وتخصيص جل الترتيبات المالية لتغطية فواتير المرتبات المتضخمة والدعم السلعي عن طريق الاعتمادات لفئة معينة ذات الطابع الاحتكاري، فقد اتجه سعر صرف الدينار الليبي أمام الدولار الأميركي والعملات الرئيسية الأخرى إلى الانخفاض الكبير في السوق السوداء وأصبح الدينار الليبي يتداول في دول الجوار بسعر متدني.
ظلت السياسة المتبعة من قبل المصرف المركزي خلال فترة الأزمة مقيدة وتحديدا مع مطلع 2014 بهدف محدد، وهو استقرار معدل الصرف وضمان قابلية الصرف والمحافظة على قیمة العملة.
غير أن ذلك انعكس سلباً على المواطن وشل حركة أهم طبقة في المجتمع الليبي “الطبقة الوسطى” التي هي المحرك الرئيسي لحركة الاقتصاد، حيث أصبحت تلجأ إلى السوداء من خلال بيع مستحقاتها التي تتحصل عليها من النقد الأجنبي لسماسرة السوق السوداء للحصول على النقد المحلي كحل مؤقت لمشكلة السيولة.
تتجاوز السيولة النقدية خارج المصارف في التداول (36) مليار، وهذا يعني أن النقود التي تخرج لا يقابلها أي إيداع، ووفقاً للحالة الأمنية الراهنة والفوضى الإدارية داخل أغلب المصارف التجارية ينشأ سوق موازي بطريقة غير مباشرة (مصارف غير رسمية) تعرض فيها العملة المحلية والعملة الأجنبية بعدة طرق منها:
الطريقة الأولى: يتم تداول العملة في شكل مزاد علني للعُملة الأجنبية من قبل مجموعة من الأشخاص يطلق عليهم اسم “تجار العملة” عادة ما يكونوا أصحاب محال بيع الذهب والفضة وهو ما يؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد، حيث يكون مصدر العملة الأجنبية غالباً لأشخاص بعينهم يتأتى من خلال الاستفادة من الاعتمادات المستندية بالسعر الرسمي، وهذه الطريقة تفتح الباب على مصراعيه للفساد المرتبط بسعر صرف الدينار الليبي مقابل الدولار وهو ما يمثل شكلاً من أشكال الفساد الاقتصادي المرتبط بعملية غسيل الأموال.
الطريقة الثانية: يتداول فيها النقد المحلي مقابل صكوك على الحساب من قبل من يملك النقد المحلي (فساد بين بعض التجار وبعض موظفي المصارف التجارية) بسعر أقل (مثال: 100 دينار نقدا مقابل صك بقيمة 120 دينار)، وذلك لتعذر إمكانية السحب النقدي من المصارف الرسمية. أي الفساد يتمثل في سوء استخدام المنصب لغايات شخصية ويشمل الرشوة والابتزاز باستغلال النفوذ، واستغلال “مال التعجيل” وهو المال الذي يدفع لموظف المصرف لتعجيل الخدمة.
الطريقة الثالثة: يتداول فيها النقد الأجنبي من خلال شراء مستحقات أرباب الأسر، والتي يتم عرضها مقابل البطاقات الدولية بالسعر الرسمي للمواطن، وهو بدوره يعرض البطاقة في السوق السوداء للحصول السيولة النقدية من النقد المحلي بسعر أعلى.
وهنا يحصل الفساد واستغلال المواطن من قبل تجار السوق السوداء والمضاربين في العملة، وتكون هذه الحالة نتيجة الوضع الأمني وغياب الوعي المصرفي للمواطن وتعطل الدور الرقابي للمصرف المركزي بسبب الظروف الأمنية بالإضافة إلى غياب السياسات الاقتصادية الرشيدة.
الطريقة الرابعة: استيراد النقد الأجنبي جراء الفساد الحاصل في الاعتمادات المستندية المتحصل عليها من قبل التجار بالسعر الرسمي بدلا من السلع الواردة في المستندات، بحيث تدخل السوق السوداء ويتم المضاربة فيها. وفي هذه الحالة يقوم بعض موظفي المصارف بتأمين خدمات يمنعها القانون، كتسريب معلومات سرية أو إعطاء ترخيص وموافقات بالتجاوز ويكون بالرشوة.
وبمتابعة آلية التعامل في السوق السوداء والتي يتراوح فيه سعر الصرف تقريبا ليصل إلى ثلاثة أضعاف السعر الرسمي المعتمد من قبل المصرف المركزي والمقدر بقيمة 0.5175 من وحدة حقوق السحب الخاص مقابل كل دينار ليبي، البالغ 1.4 دينار ليبي لكل دولار تقريباً، فإن المتعاملين والمضاربين في السوق السوداء بصرف العملة الأجنبية بيعاً وشراءً للنقد الأجنبي يتعاملون بعدة طرق منها:
تعرض العملة الأجنبية في شكل مزاد علني لمن يدفع أكثر، ويكون ذلك بناء على معلومات وتوقعات مسبقة.
يقبل المتعاملون بيعاً وشراء العملة بصك مصدق.
يقبل المتعاملون بيعاً وشراء العملة عن طريق التحويل المباشر بين الحسابات الجارية والتي يكون بها فروقات سعرية حسب اسم المصرف وسرعة إنجاز المعاملة، أو التقنية المصرفية بالمصرف لسرعة التحويل التي تستخدمها بعض المصارف (مثل: خدمة الوثبة وهي خدمة تحويل الأموال من حساب إلى آخر عن طريق الهاتف المحمول).
ومن خلال حركة السوق السوداء يتبين لنا حجمها وتغولها وتطورها والذي صاحبه فساد واستغلال حاجة المواطن للسيولة النقدية من العملة المحلية، وكذلك حاجته للعملة الأجنبية أحيانا لغرض العلاج أو الدراسة.
حيث يلاحظ وجود فروقات كبيرة بين سعر “الكاش” و”الصك المصدق” ويكون الفساد هنا هو مدى قدرة وإمكانية المواطن على الحصول على النقد الأجنبي بنفسه بسحب قيمة المخصصات المشحونة بالبطاقة خارج ليبيا. بالأضافة إلى الفرق في قيمة التحويل من مصرف لآخر واسم المصرف وسرعة إنجاز العملية واستخدام التقنية لتحقيقِ أغراضٍ مشبوهـة وما يصاحب ذلك من تواطؤ بعض موظفين المصارف في هذه العملية.
يقابل ما سبق حدوث ارتفاع مستمر في المستوى العام لأسعار السلع وهو ما يشكل عبئا إضافيا على كاهل المواطن الذي وقع فريسة للمضاربين في السوق السوداء مقابل الضغط على احتياطيات المصرف المركزي وكيفية إدارته، للدفع به في اتجاه طباعة المزيد من العملة الورقية أو زيادة مخصصات أرباب الأسر أو العمل على إيجاد طريقة لتعديل سعر الصرف والإذعان لضغط السوق السوداء، بالأضافة لترقب الموانئ النفطية والوضع الأمني فيها للحصول على المزيد من الإيرادت لتغطية الالتزامات المستحقة.
الاقتصاد الليبي انغلق على نفسه في دورة اقتصادية يشوبها الفساد واستغلال احتياجات المواطن مع هدر موارده دون إيجاد حلول أو منفذ أو بديل يتمثل في تنمية الموارد ومكافحة الفساد والحث على سلامة وفاعلية الأنشطة الاقتصادية وخلق بيئة للاستثمار في الموارد المتاحة وترسيخ مفهوم الدولة ومصداقيتها التي هي من توفر الخدمات بفاعلية وكفاءة وتقوم بحماية الموارد وتفعيل برامج الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والقانوني والإداري، وتفعيل آليات الرقابة والعقوبات الرادعة، بالأضافة لفاعلية الأجهزة التشريعية ومؤسسات المجتمع المدني.
الخلاصة .. إن من أولويات القضاء على الفساد وتخفيف أثره على سعر الصرف والقضاء على السوق السوداء تحديداً هو التركيز على ضرورة وأهيمة تعزيز الشفافية في المعاملات خلال الدورة الاقتصادية وتحسين فاعلية الأجهزة المختصة بمكافحة الفساد والتنفيذ العاجل لبرنامج الإصلاح الاقتصادي كحزمة متكاملة بهدف “الحفاظ على استقرار الأسعار و دعم النمو” وذلك بتحسين المناخ العام للتنمية الاقتصادية وخلق بيئة للاستثمار الإيجابي الجاذب لرأس المال الوطني والأجنبي لتحسين جودة الخدمة للمواطن من تحسن مستوى الدخل و مكافحة التضخم وغلاء المعيشة وصولاً لاستقرار البيئة التشريعية والقانونية التي تحكم المؤسسات الحكومية، أي وجود حكومة قادرة على تطبيق القوانين وتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي.