كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل
ينقسم الإنفاق في أي اقتصاد إلى: إنفاق عسكري والذي يشمل نفقات الدفاع والداخلية وما في حكمهما، وإنفاق اقتصادي والذي يهدف إلى إنشاء أنشطة اقتصادية بهدف تحقيق عائد مادي منها، أو إنفاق اجتماعي (وهو الأكثر شيوعاً) والمتمثل في الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم والإسكان العام ومنظومة الأمان الاجتماعي، والنوع الأخير من الإنفاق هو ذو عائد معنوي غالباً، ولا تظهر نتائجه إلا على المدى الطويل، وفي المقابل تتعدد نُظم الاقتصاد، وتتنوع السياسات بين الاقتصادية والمالية والنقدية، وبالتالي تتنوع سبل تحقيق الدخل القومي، وتتشعب معها أساليب تنسيق الموازنة العامة داخل أي دولة، ومن جانب آخر ودون الخوض في أي تفاصيل فقد تنوعت المفاهيم والنظريات الاقتصادات فصمد بعضها حتى الآن وتلاشت البقية.
بكل اختصار ودون إطالة فإن المشكلة في ليبيا هي مشكلة إدارة الموارد في المقام الأول، وهي كلمة السر في أغلب أوجه الصراع القائم على الأرض، ونتج عن هذه المشكلة مركزية مقيتة ومتوارثة منذ عقود، أنتجت عدم وجود عدالة في توزيع الدخل القومي أوغياب العدالة الاجتماعية (كما يسميها البعض) وعدم تكافؤ الفرص، وبكل أسف مالم نصل إلى حل لهذه المعضلة (بيت القصيد) فإننا كمن يحرث في البحر، وبالعودة للموارد في ليبيا فالبلد غني بالموارد المتنوعة الطبيعية والبشرية، وأن البلاد تمتلك مساحة شاسعة وشواطئ طويلة وتقطنها قلة من السكان بالمقارنة مع هذه المساحة الكبيرة والتي تتوسط هذا العالم، ومن منظور إداري تنظيمي فالمشكلة في ليبيا تكمن في عدم وضوح وتكامل السياسات، مما نتج عنها تضارب الآليات والبرامج وتداخل الاختصاصات، وبالتالي صارت جميع أجهزة الدولة تعمل في جزر منعزلة عن بعضها البعض، كما أن القطاع الخاص الليبي قد عانى هو الآخر من تدخل الدولة، ثم تم تكبيله بحزمة تشريعات عفا عنها الزمن، وقد تنوع الاقتصاد الليبي بين الإعتماد على المساعدات والعقود الخارجية عشية إعلان المملكة، ثم تحول إلى اقتصاد ريعي مع نظام حكم شبه فيدرالي، ومنح دور كبير للقطاع الخاص في التنمية، ثم تحول بعد العام 1969 إلى نظام ثوري مع اقتصاد ريعي ولكن أكثر مركزية، ثم حاول تبني النظام الاشتراكي تارة ثم النظام المختلط تارة أخرى، تلاه محاولة التخلص من كل هذه التجارب وتبني نظام منفتح مطلع الألفية الحالية، لندخل في دوامة بعد العام 2011 وهي في الحقيقة عصارة كل المراحل السابقة بالتوازي مع غياب شبه تام لدور الدولة، لنشهد نهب ممنهج، وصراع لايبدو له نهاية قريبة في الأفق، وفي كل الأحوال فقد شخص البروفيسور الراحل مايكل بورتر الحالة التنموية الليبية ضمن ماعُرف برؤية ليبيا 2019 في حينها بقوله أن الاقتصاد الليبي هو اقتصاد تواكلي، وأضاف أن البيئة الليبية بيئة طاردة، وأن هناك صعوبة لتطبيق أفكار الحداثة على الأرض، فما بالك بليبيا هذه الأيام والتي تشهد حروباً وانقسام، بل وغياب لأي دور لمؤسسات الدولة التقليدية، ومن جانب آخر فقد أنتج المرض الهولندي وبكل أسف شعباً استهلاكياً لاينتج شئ تقريباً، بل وإلى الحد الذي جعل الأمن القومي في ليبيا يقع ضمن دائرة الخطر، فالمواطن الليبي يعتمد في معظم مكونات غذائه على كل ماهو مستورد (بإستثناء بعض الخضر والفواكه الموسمية).
تجري في الاثناء حوارات بين الفرقاء الليبيين في عدد من المسارات المتوازية وبرعاية أممية، ويبقى تحقيق أي نجاحات على الأرض مرهون بالنجاح في المسارين السياسي والأمني أولاً، رغم أن البعض يخالفني الرأي ويرى أن النجاح في المسار الاقتصادي هو الذي سيؤدي إلى النجاح في باقي المسارات، وبحسب وجهة نظري فأنه بدون تحقيق أي نجاح في المسارين الأمني والسياسي وبالأخص المسار السياسي فإنه من الصعوبة بمكان توحيد المؤسسات المتشظية، ومعالجة الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالاقتصاد الوطني وتدهور معها حال المواطن، وتجدر الإشارة إلى أن أحد الخبراء الليبيين قد أشار قبل سنوات مضت إلى أن جوهر المشكلة في ليبيا يكمن في وجود تحديات رئيسية، والتي تواجه بناء أو إعادة بناء الدولة الليبية وهي:
1- حقيقة الصراع، والتفكك، والفساد، والمركزية، وتحكم المسلحين، بل وسيطرتهم على ما يتعلق بشؤون الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، والتي أدت إلى تقويض الحكم وبالتالي هدر موارد الدولة.
2- عدم وجود دراية من بعض القائمين على الشأن العام ببديهيات المعرفة التنظيمية، وجهلهم بالمفردات وبالنظريات والتطبيقات، وعدم قدرتهم علي التمييز بين الأصول والفروع والثابت والمتغير في إدارة القطاع العام what works.
3- التدخل الأجنبي المباشر في سبيل تحقيق أكبر قدر من مصالحه المشروعة وغير المشروعة في ليبيا وعلى حساب الليبيين أنفسهم، خصوصاً وأن ليبيا تمتلك موارد اقتصادية ضخمة وموقع جغرافي مميز.
4- كل ما ذكر أعلاه أدى إلى عدم وجود حكومة موحدة ذات قدرات، وفقدانها لخبرات كافية تُمكنها من إعادة بناء الدولة بعد توحيد مؤسساتها.
5- في كل الأحوال فإن إعادة بناء الدولة بالنموذج الفضفاض والذي يتبناه المجتمع الدولي في ليبيا هو عبث ومضيعة للوقت وهدر للامكانيات لأنه تجريب للمُجرب، وهو لن يُجدي نفعاً.
إلى حد بعيد فإن السياسة هي من تقود الاقتصاد وبالأخص في ليبيا، وبالتالي فعندما تكون المشكلة سياسية فستنتج عنها مشاكل لا حصر لها وهي أشبه تماماً بزلزال وتوابعه، ولكن في المقابل وبعد انتهاء الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة يتم تحييد السياسة جانباً والتوجه إلى الاصلاح الشامل والبناء.
في الوقت الذي أتمنى فيه نجاح مسارات الحوار لأجل لملمة ماتبقى لنا من وطن، فإنني في المقابل من المؤمنين بحتمية تحديد هوية الاقتصاد الوطني الليبي قبل الشروع في أي إصلاحات أو إعادة هيكلة، فتحديد هوية الاقتصاد الليبي ورسم الخارطة الاقتصادية للموارد المتاحة والممكنة هما حجر الزاوية، بل ويشكلان معاً أساس التخطيط لمستقبل الاقتصاد في ليبيا، بالرغم من أن الدولة الليبية تفتقر هذه الأيام لعدد كافي من قواعد البيانات الصحيحة والموثوقة (أو هي موجودة وتحتاج لتجميع نتيجة التشظي)، والتي يُعتمد عليها في الدراسات أو التخطيط للمستقبل، فلا تخطيط بدون بيانات، وفي هذا الإطار فقد قدم أحد خبراء المال الليبيين قبل أشهر قليلة ورقة علمية من ثلاث محاور حول (هوية الاقتصاد الليبي ودور الاقتصاد في الهوية الوطنية)، وقد إستهل ورقته بالقول أن تحديد الهوية يحتاج إلى نمط ظاهر وثابت قابل للرصد حتى يُمكن للباحث تصنيف الاقتصاد ووضعه ضمن مجموعة اقتصادات تشترك في سمات وخصائص محددة تتعلق بطبيعة وحجم الموارد المتاحة، وأسلوب ونمط تخصيص هذه الموارد وإدارتها، ومن هو المستفيد النهائي من العائد أو المردود المتأتي من خلال استغلال هذه الموارد، والتى تُفضي بدورها إلى تحديد طبيعة النظام الاقتصادي، ليتسنى تحديد أوجه وانماط النشاط الاقتصادى الوطني، وبالتالي فإن هذا يقودنا لعدد كبير من التساؤلات، والتي من بينها سؤالين اثنين أعتبرهما غاية في الأهمية حسب وجهة نظري الشخصية وهما:- الأول وهو هل تصنف هوية الاقتصاد ضمن ما يعرف بالطريق الثالث الذي يعتمد التوازن بين الرأسمالية بكامل أدواتها، وبين الرعاية الاجتماعية وكما هو عليه الحال في الدول الاسكندنافية (السويد والنرويج والدنمارك) باستثناء النرويج التي يعتبر اقتصادها ريعي؟ أما السؤال الثاني هو هل هوية الاقتصاد تقوم على العولمة والحداثة، كما هو الحال في سنغافورة وإمارة دبي ودولة قطر، أم أن الهوية تحدد في سياقها الاجتماعي والتاريخي كما هو الحال في بعض دول الخليج وبشكل أوضح في إمارة ابوظبي، أم أن تحديد الهوية لاعلاقة له بالمحيط خارج الدولة؟
يتبع…