نطرح اليوم قضية أرهقت المجتمع الليبي لسنوات ، فمنذ إقفال حقول النفط والخلافات السياسية والانقاسمات بين حكومة الشرق والغرب ، و تهافت الليبيين والليبيات على طوابير المصارف وآلة السحب الذاتي والمبيت أمام المصارف والانتظار لساعات للحصول على معاشهم ، لم يحدث أى تغيير يذكر في سياسة مصرف ليبيا المركزي لحل هذه الأزمة .
فبالنسبة للعديد من الأسر الليبية، فإن التهديد الأمني الكبير الذي تعاني منه حياتهم اليومية ليس خطر الوقوع في تبادل لإطلاق النار بين الميليشيات المتنازعة، أو الوقوع ضحية جماعة جهادية، أو الخطف من أجل الحصول على فدية. بل الأكثر إلحاحا لهم هي الأزمة النقدية.
صحيفة ” لاوفير ” نشرت تقريرا تحدث فيه الكاتب عن أسباب هذه الأزمة ، حيث ظهرت المظاهر الرئيسية للأزمة بعد النقص المزمن في الأوراق النقدية بالدينار، إلى جانب انخفاض قيمة العملة الليبية في السوق السوداء وحدث ذلك لأول مرة في عام 2014.
وخلافا للحرب الأهلية الجارية، التي بدأت أيضا في عام 2014، فقد ازدادت حدة الأزمة النقدية باستمرار خلال الأشهراللاحقة .
في طرابلس، حيث تضخم عدد السكان بمقدار الربع منذ عام 2011، إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين مع وصول الأسر النازحة من المدن الليبية الأخرى وأن مئات من الناس يقفون في طابور يوميا من 10 ليلا حتى الصباح لسحب أموال رواتبهم من البنك.
وغالبا ما يذهبون إلى ديارهم خالي الوفاض. وتحدث مشاهد مماثلة في طبرق، وسرت، وأماكن أخرى. وتتحول خطوط الانتظار الطويلة في البنوك أحيانا إلى حوادث عنف، بما في ذلك إطلاق النار من جانب الميليشيات المحلية التي تدعي “حماية” فرع البنك، وتصور تلك الجماعات المسلحة نفسها على أنها ملتزمة بالقانون والنظام، ولكنها غالبا ما تمارس الاختلاس وتؤثر بشكل تعسفي على التوزيع من المال، كما يعاني الكثير من الليبيين، فإن المتاجر الفاخرة في العاصمة هي تذكير بأن شريحة من السكان تزدهر ماليا.
كيف حدث هذا؟
إن انعدام الأمن المادي، وإن كان حقيقيا، ليس السبب الجذري وراء الأزمة النقدية في ليبيا. بل هو نتيجة ثانوية لبيروقراطية حكومية كبيرة ومستويات غير مستدامة من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والحكم الاستقطابي.
وأشارت الصحيفة إلى تطور الأزمة حيث ذكرت :
تضخم القطاع العام بعد عام 2011
كانت أول عملية انتفاضة في ليبيا بعد عام 2012 ، سنة جيدة لقطاع الهيدروكربونات في البلاد ” قطاع النفط والغاز ” . وأدى ذلك، إلى جانب عودة الطلب الخاص المكثف في القطاعات غير النفطية، إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي غير المعدل لهذا العام إلى 82 مليار دولار ، أي أكثر من ضعف الرقم المسجل في عام 2011 وبزيادة 9 % مقارنة بعام 2010. والأهم من ذلك أن ليبيا استطاعت الحصول على ما يزيد عن 100 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي التي تراكمت خلال الفترة 2004-2010 ، والتي جمدت في فبراير 2011.
بعد انتهاء حرب عام 2011 في أكتوبر من ذلك العام، ظل نظام الرعاية الاجتماعية قائما. وظلت الملكية غير المشروعة لممتلكات الدولة، والفساد أيضا. ولم تفكر الحكومة المؤقتة في إجراءات التقشف.وقد شهدت فترة ما بعد عام 2011، التي يسيطر عليها كل من الحزبية والرغبة في “شراء” الذمم والولاء للأشخاص، حيث تسبب ذلك في تزوير كشوف المرتبات الحكومية، وهي ممارسة كانت موجودة في ليبيا من قبل الثورة ، حيث وصلت الميزانية المصروفة على الرواتب إلى أكثر من 300،000 فقط رواتب للازدواجية ، وارتفعت الرواتب من القطاع العام من 6.6 مليار دولار في عام 2010 إلى ثلاثة أضعاف تقريبا لتصل إلى 19 مليار دولار في عام 2014. وبصرف النظر عن الإنفاق الباهظ على رواتب الدولة، أنفق 25 مليار دولار بين عامي 2011 و 2014 على دعم الوقود والغذاء. و (في العام الماضي، ظلت فاتورة الأجور الرسمية الليبية، التي تبلغ 14 مليار دولار، والإعانات، البالغة 4 مليارات دولار، مرتفعة).
توقف إنتاج النفط :
وأشارت الصحيفة خلال تقريرها إلى فترة توقف إنتاج النفط الليبي ، حيث شهد صيف عام 2013 ظهور الجماعات المسلحة والتى عرقلت عمدا البنية التحتية لقطاع النفط والغاز. وانخفض إنتاج النفط من 1.45 مليون برميل يوميا في مايو 2013 إلى 220،000 برميل يوميا في نوفمبر 2013.
وعاد لينتعش إلى 900،000 برميل يوميا ولكن لفترة وجيزة، وبعد ذلك قامت الدولة بحل هذه الاشكالية ، بإعطاء رشاوي ومبالغ مالية . وسرعان ما انتشرت هذه الممارسة في جميع أنحاء البلاد. ومنذ عام 2016، أحرزت المؤسسة الوطنية للنفط تقدما في التقليل من هذه الظاهرة، ولكن حتى اليوم لا يزال الحصار يعوق إنتاج النفط بشكل روتيني.
وخلال الفترة 2013-2016، أدى قمع إيرادات قطاع النفط إلى زيادة العجز في ميزانية المدفوعات في البلاد. ولسد الفجوة، أحرق مصرف ليبيا المركزي احتياطياته من النقد الأجنبي. ومع اختناق قطاع إنتاج الثروة الوحيد في البلاد، أصبح جزء كبير من الاقتصاد الليبي يعتمد على استهلاك المدخرات للسنوات السابقة..
وكانت القيادة تتمثل في شخص الصديق الكبير. محافظ مصرف ليبيا المركزي
” ولد المحافظ في عام 1951 من أسرة ليبية في تونس، وأصبح رسميا محافظ مصرف ليبيا المركزي في سبتمبر 2011. وخلال الانتفاضة، كان الكبير قريبا من مصطفى عبد الجليل،رئيس المجلس الانتقالي . وعلى مدى السنوات الست الماضية، كان الكبير هو الشخص الوحيد الذي يسيطر على احتياطيات ليبيا من النقد الأجنبي.
واستمر الكاتب في توضيح أبعاد الأزمة حيث قال :
في مراحل مختلفة منذ عام 2011، اتهم الصديق الكبير بكونه سياسيا جزئا في جماعة الإخوان المسلمين، وأن رغم كل الاتهامات والانقسامات التى وجهت إلى شخصه ورغم تبدل الحكومات من علي زيدان (2012-2014)،إلى المؤتمر الوطني العام في طرابلس (2014-2016)، ومؤخرا مجلس النواب في الشرق ، تمكن الكبير من التمسك بمقعده عند كل منعطف. لكن الشهر الماضي، عين البرلمان في شرق ليبيا حاكما جديد لمصرف ليبيا المركزي وهو، محمد الشكري، والذي يعتبر مصرفي متمرس يتمتع بتجربة موثوقة. وفي هذه المرة، قد يفقد الكبير عمله كمحافظ. ” على حسب ماذكرت الصحيفة “
ندرة الدولار
وبسبب الحصار الذي تفرضه الميليشيات على منشآت النفط من جهة، وانخفاض أسعار النفط من جهة أخرى، انهارت إيرادات ليبيا من 52 مليار دولار في عام 2012 إلى أقل من 5 مليارات دولار في عام 2016. وجاء ذلك (استنادا إلى الأشهر العشرة الأولى من عام 2017 )، ومن المرجح أنها وصلت إلى 12 مليار دولار أمريكي بنهاية العام ) .
وفي حين انخفضت إيرادات الحكومة بنسبة 90 % بين عامي 2012 و 2015، لم تتجاوز النفقات العامة سوى 40 %. ونتيجة للانفصال بين الإيرادات والمصروفات، انخفض احتياطي ليبيا من النقد الأجنبي من 108 مليارات دولار في عام 2013 إلى 57 مليار دولار بنهاية عام 2015. وأدى الانخفاض في الاحتياطيات على مدى 24 شهرا إلى 51 مليار دولار إلى خسارة عامة في الثقة في الدينار ( العملة المحلية ).
إن رؤية سعر الصرف الرسمي تصبح غير مستدامة على نحو متزايد، مضاربون “اجتازوا” الاتجاه من خلال بيع الدولار بسعر أكثر تكلفة مقابل الدينار في السوق السوداء. واستخدم التجار خطابات الاعتماد للحصول على العملات الصعبة بتكلفة زهيدة، وبصورة غير مشروعة، من الدولة نفسها.
وأكدت الصحيفة أن خطابات الاعتماد تمثل شكلا من أشكال الدعم الحكومي الذي يسمح للعملاء المصرفيين التجاريين الشرعيين بتحويل الدينار إلى الدولار بسعر الصرف الرسمي البالغ حوالي 1.40 من أجل شراء السلع من الخارج.
وبفضل التواطؤ المتعمد أو القسري لبعض مديري المصارف، تم منح نسبة هائلة من خطابات الاعتماد لحفنة من التجار. وبمساعدة موظفي الجمارك الفاسدين، يتم اعتماد سندات شحن مزورة ، ويتم توفير بضائع من الخارج إلى ليبيا بسعر صرف أعلى بكثير من 1.40. وتلعب الجماعات المسلحة دورا مهما من التخويف إلى الانتقام لإتمام هذه العملية. إن التهديد باستخدام العنف يفسر جزئيا لماذا فشل بعض مسؤولي الدولة في اتخاذ إجراءات حاسمة لتحسين الأزمة النقدية في ليبيا. فالبعض فاسد وأخر يأخذ رشاوى. وقد تحدث الممثل الخاص للأمم المتحدة في ليبيا غسان سلامة عن تواطؤ موظفي الحكومة حيث قال :
“إن العقبة الرئيسية لحل الأزمة الاقتصادية في ليبيا، هي ما أسميه ” الوضع الراهن “. وهذا يشمل :
السياسيين وقادة الجماعات المسلحة والتجار والعصابات الذين يتعاونون على نهب بلدهم كل يوم “.
وفي محاولة للحد من الوصول إلى سعر الصرف الرسمي وإبطاء استنفاذ احتياطيات العملة، خفض مصرف ليبيا المركزي إجمالي المعروض من الدولارات بطريقة تعسفية. ولتجنب إلحاق الضرر بشبكة خطابات الاعتمادات غير المشروعة ، أوقف الكبير جميع خطابات الاعتماد في جميع المجالات، بما في ذلك الخطابات المشروعة. ومع سياسة المصرف المركزي الأكثر صرامة، أصبح من المستحيل تقريبا على المواطنين العاديين تحويل الدينار إلى العملة الصعبة من خلال القنوات الرسمية. ولا يمكن إلا لأقلية صغيرة من ذوي الصلة الجيدة بمدراء البنوك فعل ذلك .
وقد جعلت هذه القيود الدولارات أكثر ارتفاعا في السوق السوداء . واليوم، يتغير الدولار في السوق الموازية بنحو 9.5 دينار ليبي، مقارنة بنحو 1.45 في يونيو 2014، أي أن الدينار قد خسر 85 % من قيمة الدولار في السنوات الثلاث والنصف الأخيرة.
لا يوجد سبب لإدخار الدينار في البنوك بعد الآن
واستمر الكاتب في سرد الاحداث قائلا:
قد أثارت الصعوبة المتزايدة في الحصول على العملة الصعبة من خلال القنوات الرسمية تدهورا في قطاع المصارف.
وأنه يتوقع حدوث مثل هذا التفاعل في بيئة يكون فيها الوصول إلى الدولارات أمرا حيويا. في ليبيا، حيث يتم شراء جميع السلع تقريبا من الخارج باستخدام العملة الصعبة. وعندما قام مصرف ليبيا المرکزي بتقييد ذلك، استجاب أصحاب المحلات التجارية وأصحاب الأعمال الصغيرة بسحب أموالهم من القطاع المصرفي تماما. واصبحوا يحتفظون بقدر كبير من أموالهم في البيوت أو في السوق الموازية.
وقد نما حجم السلع المتغيرة في السوق السوداء، مما يعكس ضعف الدينار مقابل العملة الصعبة، وارتفعت الاسعار. وقد تفاقم ذلك بسبب قرار مصرف ليبيا المرکزي بقطع أو وقف الإعانات الغذائية في أجزاء کبيرة من البلاد. وقال البعض إن عليهم أن يدفعوا الآن حوالي 100 دينار لشراء كيس من الطحين يبلغ وزنه 50 كيلوغراما في السوق السوداء مقابل 2.50 ديناراو أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 11 % من يونيو حتى أكتوبر 2017 .
وقد تسببت هذه الظواهر الثلاثة ” التضخم ، وحجم السوق السوداء المتنامي، واكتناز الأسر الليبية للعملة المحلية أو الصعبة ” في نقص تجدد إمداد الأوراق النقدية بالعملة المحلية . واليوم وفي معظم المدن، فرضت فروع البنوك التي لا تزال مفتوحة حدودا للسحب النقدي وبلغت فيمة السحب الشهري من 500 – 700 دينار شهريا. أما أولئك الذين يعيشون في المدن البعيدة ، مثل درنة أو أوباري، فلم يحصلوا على أي شحنات نقدية لعدة أشهر وقد أغلقت المصارف أبوابها.
مخرج من الأزمة؟
الأزمة النقدية في ليبيا هي أزمة ثقة وحكم. وقد تجلى ذلك بشكل واضح في استمرار انكماش الدينار مقابل الدولار خلال عام 2017، على الرغم من انكماش النفقات العامة، وقد تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا من مضاعفة كمية النفط التي أنتجتها بين شهري أبريل ويوليو من العام الماضي.
واختتم الكاتب بقوله
“إذا لم يتحقق حوار سياسي حقيقي، فمن المرجح أن تستمر الأزمة النقدية في ليبيا حتى عام 2018، سواء أعلن المصرف المركزي عن تخفيض قيمة سعر الصرف الرسمي أم لا. وإذا لم تتراجع شدتها، فإنها قد تكون سببا في تأخر أستقرار البلاد وازدياد حدة الجماعات المسلحة. وأن حل هذه الأزمة سيساعد السلطات الليبية في حكم أجزاء أكبر من البلاد وإحلال السلام “
Dunia Ali