Skip to main content
الاقتصاد العالمي ودور رأس المال في عصر ما بعد كورونا
|

الاقتصاد العالمي ودور رأس المال في عصر ما بعد كورونا

كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل

تناولت خلال شهر يونيو من العام الجاري وفي مقال من أربع أجزاء بروز وتعاظم دور الدولة والقطاع العام بعد تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وأشرتُ في حينها إلى أنه من بين الشواهد في عصر الفيروس القاتل هو أن النظريات الاقتصادية قد أصابها الشلل، كما انهار العرض والطلب معاً وفي نفس الوقت، فلم نعد نسمع بالتهافت على الثروات الطبيعية مثل الذهب والنفط والغاز بل صار الحديث عن الإنسانية وعن الجيش الأبيض وعن المناعة وعن الكمامات وأجهزة التنفس…إلخ، وأن قوة اقتصاد الدول في عصر الجائحة وبعدها ستتوقف على بناء رأس مالها البشري والمادي، على الرغم من أن الحفاظ على رأس المال البشري سيكون صعباً وبالأخص في الدول الفقيرة والمتخلفة بسبب زيادة هجرة العقول والأيادي العاملة الماهرة منها وفي اتجاه الدول الكبرى والغنية.

في الأثناء يواجه كوكب الأرض الموجة الثانية لفيروس كورونا المستجد، والتي رفعت معها المخاوف من معضلة كبيرة هي الآن موجودة بيننا وإلى أخرى قادمة إلينا والتي ستكون أكبر من الأولى (على الأرجح)، وسيكون على رأسها الجانب الاقتصادي والذي نالت منه الجائحة كثيراً في موجتها الأولى، فالموجة الأولى جلبت معها ركوداً اقتصادياً عميقاً لم تخرج منه كل اقتصادات الكوكب حتى بعد مرور ما يقرب من عام على تفشي الوباء، ومازاد الطين بلة هو أن بعض الحكومات قد عادت وفرضت قيود الحمائية الشاملة أو الجزئية وغيرها من الاستراتيجيات والسياسات الاقتصادية، والتي خسر فيها المستهلكين والمؤسسات على حد سواء.

من نافلة القول أن كل خبراء الاقتصاد حول العالم يؤكدون أن العالم يعيش حالة تغير، وأن ما يواجهه الاقتصاد العالمي الآن هو شئ غير مسبوق والمتمثل في حالة من عدم اليقين، لأننا لازلنا نعيش في حالة ضبابية بسبب الجائحة وعدم توفر مصل مضاد لها حتى الآن، وبعبارة أوضح فلا أحد يعرف حجم المشكلة الحقيقي ولا موعد إنتهاء الجائحة، وبالتالي توجب العمل وفق مناهج مختلفة وغير تقليدية، وأن الموجة الأولى قد جعلت الاقتصاد العالمي يستند إلى عمليات إنقاذ حكومية ضخمة، بل ووصلت إلى قيام بعض الحكومات بتسديد رواتب موظفين في القطاع الخاص، ومما لا شك فيه أن عمليات التحفيز هذه والتي أقدمت عليها الحكومات قد أسهمت في منع السقوط الحر لاقتصاداتها.

كما يعلم الجميع أن من بين فروع العلوم الرئيسية الثلاثة وهي الطبيعية والاجتماعية والانسانية فإن علم الاقتصاد هو فرع من العلوم الاجتماعية، حيث تقوده 3 نظريات أساسية وعدد من الأدوات (السياسات)، ولكن المعضلة تكمن في أن النظريات الاقتصادية الثلاثة المعروفة قد بُنيت جميعاً على التحكم في رأٍس المال أو بالأحرى رأس المال المادي، وهو مالم يعد صالحاً (على مايبدو) في عصر الثورة الصناعية الرابعة وعصر شبكات الجيل الخامس للاتصالات، فالعالم اليوم ليس هو العالم قبل 60 سنة عندما انطلقت الثورة الصناعية الثالثة، والدليل على ذلك هو أن الجائحة قد أثرت على الجميع سلباً، عدا قطاع التكنولوجيا المدعومة بالاتصالات، والتي استفادت من الجائحة وضاعفت مكاسبها، وصار الاهتمام برأس المال البشري أي رأس المال المعنوي أكثر أهمية من ذي قبل وعلى حساب رأس المال المادي، وبشئ من التفصيل فإن هناك قضايا اقتصادية عالمية هي في حاجة إلى عملية إعادة تقييم وعلى رأسها الأيديولوجية النيوليبرالية، فكما هو معلوم فقد تسببت عقلية السوق الحر في تآكل حقوق العمال الاقتصادية وإلغاء القيود التنظيمية، فضلاً عن المساعدة في ظهور احتكارات عالمية جديدة كبيرة، وبالتالي ينبغي أن تتم مراجعة قواعد التجارة والضرائب والمنافسة العالمية.

لقد أوضح كلاوس شواب مؤسس ورئيس المنتدى الاقتصادي العالمية وهو بالمناسبة أول من أطلق مصطلح الثورة الصناعية الرابعة قبل بضع سنوات من الآن، أنه على الاقتصاد العالمي وبالأخص الرأسمالي منه التخلص من بعض محركات النمو الأساسية، وأوضح أن النسبة الأكبر من التقدم الاجتماعي الذي أحرزه البشر في ماضي السنوات يرجع فيه الفضل لريادة الأعمال، والبحث عن نماذج أعمال جديدة ومبتكرة، والقدرة على تكوين الثروة من خلال المخاطرة، واستطرد قائلاً أن البشر هم في حاجة إلى أسواق جديدة تخصص فيها الموارد والسلع والخدمات وبكفاءة أكبر من ذي قبل، وإلى تفكيك الحواجز والعراقيل ويتم ذلك بالتوازي مع البدء في بناء منصات للتعاون بين القطاعين العام والخاص، كما أن الضرورة تقتضي اشراك الأجيال الأصغر سناً لأن كل هذا الطرح هو متعلق بالمستقبل، ولقد رأى شواب أيضاً أن هناك ضرورة قصوى لإعادة التفكير في مصطلح “رأس المال”، سواء كان رأس المال مالي أو بيئي أو بشري ..إلخ، وذلك قبل التكلم عن الأسواق الجديدة وعن دور الشركات ودورها الجديد بعد أن كان يتمحور حول ممارسة الأعمال.

ختاماً، لقد أظهرت أزمة الفيروس القاتل أن الشركات التي أستثمرت في رأس مالها بشقيه المادي والبشري بهدف تعزيز نشاطها على المدى الطويل كانت مهيأة بشكل أفضل لتحمل هذه الأزمة وتبعاتها، وأن الجائحة قد أدت إلى تسريع التحول نحو نموذج رأسمالية أصحاب المصلحة للشركات، وهي لا تعتبر “إعادة التهيئة” بقدر ماهي إلا تحولاً نحو أيدلوجية جديدة، وخطوة عملية نحو عالم أكثر مرونة وتماسكاً واستدامة، ومعه حتماً سيتم استبدال بعض ركائز النظام العالمي لعل أولها هو تغيير المفاهيم القديمة المبنية حول رأس المال نفسه، وضرورة إصلاح أو تعزيز البعض الآخر منها، بهدف تحقيق الإزدهار لكل البشر.

مشاركة الخبر