كتب أستاذ الاقتصاد السياسي “محمد البرغوثي”: الدينار الليبي بين التعويم والتثبيت
يشهد النقاش الاقتصادي في ليبيا جدلا متجددا حول مستقبل سعر الصرف والخيارات المتاحة أمام المصرف المركزي. فبين من يدعو إلى التعويم الكامل أو المدار، ومن يفضّل الإبقاء على نظام التثبيت، تبرز الحاجة إلى قراءة متأنية تستند إلى الواقع المحلي وطبيعة الاقتصاد الليبي، بدلا من استنساخ نماذج دولية لا تنطبق بالضرورة على الواقع في الاقتصاد الليبي .
طبيعة الاقتصاد الليبي، خصوصية لا يمكن تجاهلها
الاقتصاد الليبي اقتصاد ريعي بامتياز، إذ يأتي ما يقارب 98% من النقد الأجنبي من مصدر واحد هو صادرات النفط الخام والاتوات الناتجة من هذا القطاع وفي بعض الأحيان صادرات الغاز، فيما يعتمد المجتمع على الاستيراد لتغطية 95% من احتياجاته السلعية الأساسية. أما القطاع الخاص، فهو في معظمه مرتبط بالإنفاق الحكومي، ولا يملك قاعدة إنتاجية أو تصديرية تخلق تدفقات مستقلة من العملات الأجنبية.
هذه المعطيات تفرض قيودا شديدة على أي نظام لسعر الصرف: فالتعويم الكامل مثلا في ظل عرض شبه ثابت من الدولار وطلب شبه غير مرن بسبب الاستيراد، سيقود حتما إلى تقلبات حادة وارتفاعات كبيرة في الأسعار، بما يضعف القوة الشرائية للمواطن ويهدد الاستقرار الاجتماعي.
التعويم الكامل والتعويم المدار، تحديات لا تناسب ليبيا
التعويم الكامل: قد يكون صالحا في اقتصاد متنوع وقادر على توليد النقد الأجنبي عبر صادرات صناعية وخدمية متنوعة. أما في ليبيا، فسيؤدي إلى تضخم مستورد وعجز المصرف المركزي عن ضبط السوق، خاصة مع محدودية الأدوات النقدية.
التعويم المدار: يتطلب وجود مؤسسات مالية قوية وسوق عملات منظم وشفاف، إضافة إلى قدرة على التدخل الفعال عند الحاجة. لكن غياب هذه الشروط في الحالة الليبية يجعله أقرب إلى تعويم شكلي يتحول عمليا إلى سعر صرف مزدوج أو متعدد، مع احتمالات واسعة لانتشار الفساد في تخصيص النقد الأجنبي.
التثبيت خيار واقعي في واقع معقد وبه عدة أجزاء تمثل المشكلة
في ضوء هذه المحددات، يظل نظام التثبيت الأكثر ملاءمة لليبيا في المرحلة الراهنة، فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في الإنفاق الحكومي الطبيعي على المرتبات والخدمات العامة، بل في خلق النقود من عدم عبر تمويل العجز الحكومي بسندات وأذونات مالية. هذا المسار خالف قواعد الدورة النقدية الطبيعية، وأدى إلى زيادة ضخمة في السيولة المحلية دون غطاء حقيقي من الإيرادات الدولارية، وهو ما شكّل ضغطا غير مسبوق على سوق الصرف.
بالتالي، فإن تثبيت سعر الصرف عند مستوى عادل ومدروس، مع ضبط الإصدار النقدي وربطه فعليا بتدفقات الإيرادات الحقيقية، يظل خيارا أكثر أمانا من الانزلاق نحو تعويم غير محسوب. التثبيت لا يعني الجمود، بل يمكن تطويره عبر آليات مرنة لإدارة الطلب على الدولار، مثل تنويع أدوات السوق المفتوحة، وترشيد الاعتمادات، وتحسين الرقابة على تدفق الأموال.
تجارب الدول النفطية في تثبيت سعر صرف عملاتها مقابل العملات الأجنبية
تجارب الدول النفطية المجاورة وفي الاقليم تقدم شواهد مهمة. فالجزائر، رغم امتلاكها احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي، أبقت على سعر صرف مُدار شبه ثابت، لتفادي التقلبات التي قد يفرضها الاعتماد على النفط كمورد وحيد للعملة الصعبة. أما دول الخليج مثل السعودية والإمارات والكويت(الكويت ربطت عملتها بسلة عملات وليس الدولار منفردا)، فقد فضّلت أنظمة التثبيت المباشر أو المرن المرتبط بالدولار، إدراكا منها أن استقرار العملة شرط أساسي لجذب الاستثمار وضمان استقرار الأسعار في اقتصادات تعتمد بدرجة كبيرة على الواردات.
هذه التجارب تعزز الفكرة القائلة إن ليبيا، بوضعها الريعي المعتمد على النفط، ليست في موقع يسمح لها بتحمل أعباء التعويم، وأن خيار التثبيت، مع تطوير أدوات إدارة السيولة والاحتياطيات، يظل الأنسب لتحقيق التوازن والاستقرار.
وبشكل عام، فإن مستقبل الدينار الليبي لا يتحدد فقط بخيار نظام الصرف، بل ايضا بمدى القدرة على إصلاح المالية العامة، وترشيد الإنفاق، وتحسين كفاءة المؤسسات. فالنقاش حول التعويم أو التثبيت، إن لم يدمج ضمن إصلاحات اقتصادية شاملة، سيبقى محدود الجدوى. ومع ذلك فإن السياق الحالي يجعل من التثبيت خيارا واقعيا ومسؤولا، يمنح الاقتصاد استقرارا نقديا يهيئ بيئة أكثر أمانا لأي إصلاحات أوسع قادمة.