Skip to main content
"البرغوثي" يكتب: مسؤولية مصرف ليبيا المركزي في قلب الأزمة
|

“البرغوثي” يكتب: مسؤولية مصرف ليبيا المركزي في قلب الأزمة

كتب أستاذ الاقتصاد السياسي “محمد بلقاسم البرغوثي” مقالاً قال خلاله:

في قلب العاصفة الليبية، التي تتشابك فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية بشكل نادر الحدوث، يقف مصرف ليبيا المركزي كواحد من أهم المؤسسات الوطنية التي حافظت – نسبيًا – على استمرارية الدولة، وإن كان ذلك بثمن باهظ من الانتقادات، والقيود، والضغوط.

دعونا ننظر إلى الصورة بشكل أكثر توازنًا، بعيدًا عن التسييس والاصطفاف:

(مركزي في دولة غير مركزية)

مصرف ليبيا المركزي يعمل في بيئة سياسية منقسمة ومتنازعة على الشرعية منذ أكثر من عقد. هذا الانقسام لم يُنتج فقط حكومتين أو أكثر، بل أنتج واقعًا تشغيليًا مريضًا، يتداخل فيه القرار المالي مع مراكز القوى المحلية، والسلطة التنفيذية المنقسمة، والأطراف الدولية المتدخلة.

في ظل هذا الواقع، لم يُمنح المصرف المساحة الكافية للعمل كمؤسسة مستقلة تُمارس سياساتها بأدواتها التقليدية، بل وُضع أمام مسؤوليات فوق قدرته القانونية أو المؤسسية، ما جعله يتحمل أعباء التأمين الاقتصادي للبلاد في وقت غابت فيه استراتيجية الدولة الموحدة.

(ضغوط بلا أدوات ومفارقة الواقع)

من ينتقد أداء المصرف المركزي، عليه أن يتخيل الصورة التالية:
• إدارة نقدية لاقتصاد ريعي هش يعتمد على النفط بنسبة تزيد على 95% من إيراداته.
• الحفاظ على استقرار سعر الصرف في سوق تغيب عنه الضوابط الحقيقية للسوق.
• تمويل إنفاق حكومي هائل وغير خاضع لرقابة موحدة.
• مواجهة أزمات سيولة في ظل تباين واضح بين المكونات الجغرافية والمؤسساتية للدولة.
• العمل تحت ضغط شعبي يطالب بالتحسين الفوري في الخدمات، بينما القرار المالي مرهون بالتوازنات السياسية المعقدة.

ورغم ذلك، تمكن المصرف من:
• الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار النقدي.
• تمويل الدولة دون الانزلاق في تضخم مفرط أو انهيار للعملة.
• الاستمرار في إدارة الاحتياطيات بشكل مسؤول وسط تعقيدات دولية في ملف التجميد والحظر.

(غياب الرؤية الوطنية عبء إضافي على المركزي)

المشكلة الكبرى أن مصرف ليبيا المركزي لا يُحاسَب فقط على أفعاله، بل على ما لم تُنجزه بقية مؤسسات الدولة. لا توجد رؤية اقتصادية موحدة، ولا سياسة مالية منضبطة، ولا حكومات تعمل ضمن معايير مهنية ومؤسسية. ومع ذلك، يبقى المصرف ملزَمًا بـ”الإبقاء على الدولة واقفة”.

هذا الوضع يخلق مفارقة خطيرة: المركزي مطالب بتحقيق نتائج حكومة دون أن يُمنح أدوات حكومة.

(لا حياد في مواجهة الانهيار)

لا يمكننا أن نُحمّل مصرف ليبيا المركزي وحده نتائج أزمة لم يُصنعها وحده، كما لا يمكننا السكوت عن التجاذبات التي تحاول تسييس مؤسسة وطنية تُعتبر واحدة من قلاع السيادة الاقتصادية.

ما نحتاجه اليوم ليس نقدًا شعبويًا، بل:
• إصلاح شامل للمنظومة المالية والسياسية.
• إعادة الاعتبار لاستقلالية المؤسسات.
• دعم فني ووطني لمصرف ليبيا المركزي من الداخل والخارج، باعتباره مؤسسة سيادية وليست طرفًا في نزاع.

ربما ليس مصرف ليبيا المركزي مثاليًا، وربما ارتُكبت أخطاء في مسارات معينة. لكن الأمانة الوطنية تفرض علينا أن نُقِر بأن هذه المؤسسة الوطنية تقف في موقع النار، وتؤدي ما تستطيع في ظل أكثر البيئات المؤسسية هشاشة في العالم.

نحن لا نملك ترف تدمير ما تبقى من أركان الدولة. فلنصلح من الأعلى إلى الأسفل، ولنمنح المصرف الأدوات قبل أن نحاسبه على النتائج.

مصرف ليبيا المركزي ليس المشكلة، بل هو أحد ضحاياها

مشاركة الخبر