
| مقالات اقتصادية
البرغوثي يكتب: مقترح تسقيف وتوسيم الميزانية: خطوة جادة نحو انضباط مالي يعيد هيبة الدولة
كتب أستاذ الاقتصاد السياسي “محمد بلقاسم البرغوثي”: مقترح تسقيف وتوسيم الميزانية: خطوة جادة نحو انضباط مالي يعيد هيبة الدولة
في خضم المشهد الاقتصادي المعقد الذي تمر به ليبيا، حيث تُستنزف الموارد وتُخفق الأدوات التقليدية في تحقيق الاستقرار المالي، يبرز مقترح الأستاذ محمد الصافي بشأن “تسقيف وتوسيم الميزانية” كمبادرة جادة، واقعية، ومتقدمة في طرحها، تستحق المناقشة والتحليل، بل وتفتح بابًا واسعًا للنقاش البنّاء حول إصلاح الإدارة المالية العامة.
تسقيف الميزانية: ضبط الإنفاق لا تقليص التنمية ، مقترح الصافي لا يدعو إلى تقشف أعمى، بل إلى ضبط واعٍ للإنفاق، يقوم على فكرة وضع سقف للميزانية يمنع الانفلات المالي، ويُرسّخ مبدأ الانضباط كواحد من مقومات الحوكمة الرشيدة.
التسقيف هنا ليس تقييدًا للتنمية، بل إطارًا واقعيًا لتحويل الأولويات من النفقات الاستهلاكية إلى المشاريع الإنتاجية، ومن الفوضى المالية إلى التخطيط المحكوم بضوابط ومؤشرات واضحة.
التوسيم: نحو فصل استراتيجي بين العوائد النفطية والإنفاق الجاري، ما يُحسب للأستاذ محمد الصافي، أن طرحه لم يكتف بالدعوة إلى تقليص الإنفاق، بل سعى لتأسيس مبدأ التوسيم، الذي يفصل بين إيرادات النفط واستخدامها في الإنفاق الدوري.
هذه الفكرة التي تتماشى مع توصيات كبرى المؤسسات الدولية، تنطلق من ضرورة حماية العائدات النفطية من الاستنزاف، وتوجيهها إما للادخار السيادي أو للاستثمار طويل الأجل. إنها دعوة إلى إنهاء حالة “الارتخاء المالي” التي فرضها الاعتماد على مورد ريعي متذبذب، وإلى خلق قاعدة إنفاق تعتمد على موارد محلية واقعية.
رؤية تتناغم مع الحاجة إلى إصلاح مؤسسي المقترح، في جوهره، لا ينفصل عن الدعوات الأوسع لإعادة بناء الدولة الليبية على أسس مؤسسية، بل يدعمها ويُعززها.
إذ أن التوجه نحو تسقيف وتوسيم الميزانية يُلزم الدولة بوضع أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية، ويُحتم عليها تطوير آليات التحصيل الضريبي، وتحفيز القطاع الخاص، والارتقاء بكفاءة الإنفاق.
إنها خطوة في اتجاه إصلاح الدولة من الداخل، عبر استعادة فعاليتها المالية واستقلالها عن تقلبات السوق العالمية.
مبادرة شجاعة في ظرف استثنائي: من النادر أن نجد في ظل هذا المناخ السياسي والاقتصادي المضطرب من يمتلك الجرأة لطرح حلول جذرية وواقعية في آن واحد.
وقد توجه الصافي إلي الجمع بين التحليل الرصين، والبُعد العملي، والواقعية السياسية في توقيت حساس يحتاج إلى أفكار مسؤولة من هذا النوع.
إنه مقترح لا يعالج الميزانية فقط، بل يبعث برسالة سياسية وأخلاقية مفادها أن المال العام ليس متروكًا لعبث العشوائية، بل هو أمانة يجب أن تُدار بعقل الدولة لا غنائم السلطة.
كلمة أخيرة:
كم نحن بحاجة اليوم إلى مثل هذه المبادرات التي تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمال، وبين المواطن والخدمة العامة.
وكم نحتاج إلى أن تتلاقى هذه المقترحات مع رؤية اقتصادية شاملة تُعيد بناء ليبيا الدولة، لا ليبيا السوق.
إنني أحيي الأستاذ محمد الصافي على هذا الطرح، وأدعو إلى نقاش وطني هادئ ومسؤول يتعامل مع هذا المقترح باعتباره جزءًا من مشروع إصلاحي أشمل، لا كأداة منفصلة، فبمثل هذه العقول تنهض الأوطان، وتُرسم بدايات التحول الحقيقي.