Skip to main content
"الترهوني": أين مكمن الخلل في إدارة الشأن العام الليبي؟ قراءة سريعة للمشهد
|

“الترهوني”: أين مكمن الخلل في إدارة الشأن العام الليبي؟ قراءة سريعة للمشهد

كتب الخبير الاقتصادي “عبدالله الترهوني مقالاً قال فيه:
السياسات العامة أو السياسات الحكومية public policies هي دليل للإجراءات التي تتخذها السلطات التنفيذية للدولة ضمن حدود القانون لإنجاز أهداف محددة، وذلك من خلال إستخدام الموارد البشرية والطبيعية، وفيما يخص إدارة الشأن الاقتصادي تحديداً فإنه يقوم على ثلاث سياسات إقتصادية كلية أو ثلاثة أركان هي التجارية والمالية والنقدية، فالأولى هي إختصاص وزارة الاقتصاد ونعني بها مجموعة الأساليب والأدوات التي تتخذها الدولة في هذا الجانب، وهي تضم سياستي التجارة الحرة والحماية التجارية، وفي المجمل تهدف السياسة التجارية للحد من الواردات وتشجيع الصادرات وحماية المنتجات المحلية، أما السياسة المالية فهي عبارة عن سلسلة من الإجراءات والقرارات التي تتخذها الحكومة لتنظيم الإيرادات والنفقات في الاقتصاد، وهي إختصاص وزارة المالية، وتهدف السياسة المالية إلى تحقيق التوازن المالي ودعم النمو الإقتصادي ومكافحة التضخم والبطالة وصولاً للاستدامة المالية، وتحقق السياسة المالية التوازن المالي أي ضبط الضرائب، والإنفاق الحكومي، ومنع تراكم الدين العام الحكومي، أما السياسة النقدية فهي إختصاص المصرف المركزي والذي يفترض أن يُدار بمجلس إدارة كفوء يرأسه محافظ ، وتشمل أدوات السياسة النقدية معدلات الفائدة، والسياسة النقدية المفتوحة، وسياسات سعر الصرف، وبالمناسبة فإن المصرف المركزي الذي يتبع السلطة التشريعية هو مستشار اقتصادي للسلطة التنفيذية وهي الحكومة.مما يتضح أن السياسة المالية تتعلق بتنظيم الإيرادات والنفقات الحكومية، وأن السياسة النقدية تتعلق بضبط العرض النقدي والتحكم في معدلات التضخم، وبالتالي فإن تناغم أو تكامل السياسات الاقتصادية الكلية الثلاثة سيحقق الإدارة الرشيدة للمال العام والذي يشمل على سبيل الذكر الاستقرار المالي ودعم النمو الاقتصادي لتحقيق التوازن المالي والاستدامة المالية، وتحقيق دعماً للنمو الاقتصادي بالاضافة إلى مكافحة التضخم والبطالة، وتحقيق الرفاه لأفراد المجتمع في نهاية المطاف.
من جانب آخر، طالعنا نحن الليبيون عدداً من المراسلات الموجهه من محافظ المصرف المركزي الليبي إلى كل من رئيس حكومة الوحدة ورئيس مجلس النواب والتي أشار في إحداها إلى ما تم إنفاقه منذ مطلع العام 2021 أي منذ تخفيض قيمة الدينار الليبي بأكثر من 70% ومجئ حكومة الوحدة وحتى نهاية العام 2023، فيما عرض في الأخرى مقترحاً لفرض رسماً جديداً على بيع النقد الأجنبي، ولكن قبل الغوص في التفاصيل أدعوكم لمطالعة المقال الذي نشرته في 11 اكتوبر 2021 من جديد، والمقال موسوم حصاد حكومة الوحدة الوطنية في 180 يوم.
 
 
من نافلة القول أن المعضلة في ليبيا هي في كيفية إدارة الموارد وليست في الموارد في حد ذاتها، و أن الحكومات الليبية المتعاقبة كانت مُطالبة بإصلاح هيكل الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستدامة المالية العامة، ولكن هذا لم يحدث، لقد فضل الجميع الهروب إلى الأمام بدلاً من العمل على حل مشاكل الدولة والمواطنين، حيث عمل الجميع بدون برامج أو خطط، وبدون ميزانيات رسمية، وبالتالي فإن مراجعة السياسات العامة الحالية والإقرار بعدم جدواها في بناء اقتصاد إنتاجي تنافسي أو اقتصاد حقيقي في ليبيا هو ضرورة، وأن الاعتراف بفشل هذه السياسات في تحقيق طموحات الشعب والرفع من مستوى معيشتهم هو الآخر ضرورة، وعليه فإن كسر أول حلقات التخلف والفساد يتم من خلال تنويع الاقتصاد، ومن جانب آخر تعاني كثير من الدول من تضخم النفقات على حساب الإيرادات والذي يعني عجزاً في الميزانية، فعلى سبيل المثال ستعاني الميزانية السعودية من عجز متوقع خلال العام المالي الحالي بنحو 79 مليار ريال (23 مليار دولار) والكويت بنحو 26 مليار دولار (6.8 دينار كويتي) وهي صاحبة عملة قوية إن لم تكن عملتها هي الاقوى في العالم، ولكن لم تفكر أي من الدولتين في خفض قيمة عملتها المحلية لسد العجز.
 
بالعودة إلى أول الكتابين الصادرين عن السيد المحافظ، والذي حمل الرقم 1201 والموجه إلى عبدالحميد الدبيبة (بصفته) في 26 فبراير 2024، حيث أستعرض فيه جملة من الردود على كلمة الدبيبة في ذكرى الاحتفال بالثورة، والتي تطرق فيها الدبيبة إلى بعض قضايا الشأن الليبي العام والتي تمس السياستين النقدية والمالية للبلاد، وحمُل الدبيبة شيئاً مما قاله على شخص المحافظ، فيما حمًل الباقي على أعضاء مجلس النواب، وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه العمل بروح الفريق وبعقلية الشخص المسؤول الباحث عن حلحلة مشاكل المواطنين والإبتعاد عن المناكفات، إلا أن العكس تماماً هو الذي حصل، وبالتالي تعمقت أزمات المواطنين أكثر من ذي قبل، ومازاد الطين بلة هو تصريح وكيل وزارة الإقتصاد “سهيل بوشيحة”والذي أوضح فيه أن الإنفاق الوارد في كتاب المحافظ فيه مبالغة (زيادة) بقيمة 80 مليار دينار عن المصروف فعلاً، في الوقت الذي كنا ننتظر فيه ظهور وزير المالية في مؤتمر صحفي يوضح الإيرادات والمصروفات العمومية بكل جلاء.
 
على أي حال، إن السيد المحافظ تصرف كعادته منفرداً، وهو الذي تحول من محافظ يرأس لجنة إدارة إلى مدير تنفيذي، ومن بين المأخذ الأخرى على المحافظ هو قوله الإنفاق مجهول المصدر، لأن هذا الإنفاق قد راكم الدين الحكومي من جهة، وزاد من الطلب على الدولار من جهة أخرى، وبذلك يكون لزاماُ على المحافظ ووزارة المالية تحديد الجهات التي توجه إليها الإنفاق مجهول المصدر وبيان المبالغ التي تم صرفها، وفي المقابل فإن المحافظ كان محقاً في النقاط الأربع الأولى من كتابه، وجانبه الصواب في توصياته الواردة في النقطة السابعة والتي ذيل بها كتابه المشار إليه.
 
بمقارنة الواقع الذي نعيشه مع رد الصديق الكبير في كتابه فإن أسئلة عديدة تطل برأسها أذكر منها: ماهو الأساس القانوني الذي به تم الصرف من قبل المصرف المركزي لثلاث حكومات متعاقبة في غرب ليبيا وحكومتين في شرقها وفي غياب تام لقانون الميزانية من السلطة التشريعية منذ 2014 وحتى اليوم، ثم أين ذهبت عوائد فرض رسم على بيع النقد الاجنبي بالقرار 1300/2018 منذ سنة التشريع وحتى تغيير سعر الصرف رسمياً مطلع العام 2021، والذي كان الغرض منه هو ردم (تجسير) الهوة بين سعر بيع العملات الأجنبية في السوق السوداء والسعر الرسمي من المصرف المركزي أولاً، وإطفاء جزء من الدين العام ثانياً، ولكن العكس هو الذي حصل حيث زاد الدين العام بمرور الوقت بدلاً من أن يتناقص، ثم أين هي نتائج صرف ميزانية إستثنائية لقطاع النفط والتي هدفت لتطوير القطاع وزيادة إنتاجه، وأخيراً لماذا كل هذه المصروفات (المُبالغ فيها) في الباب الرابع من الميزانية السنوية الحاضرة الغائبة، دون أن نغفل عن الكارثة الناجمة عن مقايضة النفط الخام بالمكرر؟
 
أما الكتاب الثاني والذي حمل الرقم 1199 والموجه من الصديق الكبير (بصفته) إلى عقيلة صالح (بصفته) في 27 فبراير 2024، فإن أولى الملاحظات عليه هي رقم الكتاب نفسه، وفي كل الاحوال تطرق المحافظ إلى أزمة توفير عملات أجنبية لتُغطية الطلب المحلي عليه منذ سبتمبر 2023،  أي منذ نصف سنة بالكمال والتمام، وهذا في حد ذاته يضع الصديق الكبير تحت طائلة السؤال…أين كان المحافظ كل هذه المدة؟ كما أوضح المحافظ في نفس الكتاب أن عرض النقود بالسوق المحلي بلغ 140 مليار دينار، ثم ربط هذا الرقم بالعجز المتوقع في ميزانية 2024 والذي يتجاوز 12 مليار دولار، واللافت للنظر هو تركيزه في صلب الكتاب على دعم المحروقات وعلى المبلغ المخصص له والمقدر بنحو 41 مليار دينار ليبي، وكأنه يهيئ الرأي العام الليبي لتقبل الرفع التدريجي للدعم على المحروقات، ثم أشار في نفس الكتاب لمجموعة من الإجراءات التي تهدف لخفض أو توازن الطلب على العملات الإجنبية من بينها : ضرورة وجود حكومة واحدة تحكم البلاد شرقا وغرباً وجنوباً، وإقرار قانون ميزانية لهذه الحكومة من قبل مجلس النواب، لكنه في المقابل نسى أو تناسى حجم الإنفاق غير المسبوق على البعثات والسفارات الليبية بالخارج، وأن أغلبها ليس له أي ضرورة من الأساس، ثم كرر نفس النكتة السمجة التي ساقها في كتابه الأول وهي الإنفاق مجهول المصدر، ثم أوصى في ذيل كتابه بفرض رسم قيمته 27% على مبيعات النقد الأجنبي، ولكن فور نشر الكتاب رد عمر تنتوش (بصفته) ومعه 33 نائباً على السيد المحافظ وفي بيان رسمي بأن تعديل سعر الصرف هو إختصاص أصيل وحصري لمجلس إدارة المصرف المركزي مجتمعاً.
 
دون الحاجة لإعادة نشر ماكتبته خلال السنوات الماضية حول النقاط سالفة الذكر في هذه المقالة، وعطفاً على ما ورد في صدر هذه المقالة تحديداً، فإن المعضلة في ليبيا تكمن في سوء إدارة القطاع العام، يرافقها عدم التحلي بروح المسؤولية لدى المسؤولين، وفي ظل غياب المحاسبة وتفشي ثقافة الغنيمة، وأرى أن أول الحلول هو عدم الإكتفاء بردات الفعل أو معالجة الأعراض فقط وذلك من خلال التركيز على الإنفاق المنفلت دون حسيب أو رقيب، بل يجب أن يشمل الحل تكامل وتناغم السياسات الكلية، وأود أن أوضح أن الإكتفاء بتعديل سعر الصرف منفرداً والذي يمثل أحد أهم أدوات السياسة النقدية ليس حلاُ على الإطلاق، كما أن مجلس إدارة المصرف المركزي مُطالب بتخفيض عرض النقود في السوق الليبي، كما تقتضي الضرورة أيضاً أن تتولى وزارة المالية دورها المناطة به وهي (الغائبة أو المغيبة عنه) والمتمثل في ضبط الإنفاق، والإفصاح دورياً عن الإيرادات والمصروفات وحجم الدين العام، ولابد لليبيين أن يدركوا جيداً أن معضلة ليبيا ليست سياسية فقط، وأن مشكلتهم عميقة وقد تؤول بهم إلى تلاشي دولتهم من الوجود بسبب عقوق أبنائها وسوء إستغلال الموارد المتاحة والممكنة، وأن أفضل وآخر الحلول لليبيا هو تصفير العملية السياسية برمتها جملةً وتفصيلا، وهذا يكون بالتزامن مع صحوة الشعب من سباته، وأن يُترك له الحق في إختيار من يحكمه بشرط توفر معايير وبيئة تساهم في إنجاح العملية الأنتخابية.
 
ختاماً، كل هذا العبث في المشهد الليبي يحدث أياماً معدودة قبل حلول شهر رمضان المبارك، وعلى أي حال فإنه في ظل المؤشرات الحالية فالإستغناء عن إستيراد بعض السلع الكمالية خلال العام 2024 هو ضرورة، وأرى من الضرورة أيضاً إعتماد ميزانية تقشفية وبالأخص في البابين الثاني والرابع منها، وتخفيض أعداد السفارات والقنصليات الليبية بالخارج، وأدعو كل الليبيين والليبيات بأن لا يقبلوا بخفض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الاجنبية، كما أدعوهم أيضاً إلى عدم القبول بأكثر من سعر واحد للدولار وإلا ستكون النتيجة عليهم كارثية، كما أرى من الضرورة تشجيع وتحفيز القطاع الخاص للعمل في قطاعات الصناعة والزراعة والصيد البحري وتجارة العبور والطاقات المتجددة، وتوفير كل الدعم له، وتشجيع الأبتكار واقتصاد المعرفة.

رابط مقال حصاد حكومة الوحدة الوطنية في 180 يوم

https://tinyurl.com/2taw27sx

مشاركة الخبر