كتب: الخبير الاقتصادي د. “عبدالله ونيس الترهوني”
أدلى الكثيرون بدلوهم بعد صدور منشور أو بيان مصرف ليبيا المركزي عن مصروفات ومداخيل شهري يناير وفبراير 2025، وبكل تجرد فالمنشور أو البيان مبتور وأرقامه غير دقيقة، وكان الغرض منه هو تهيئة الرأي العام الليبي للسيناريو القادم، وهو الذي ظهر جلياً مع بزوغ شمس أول أيام العمل الرسمي بعد عطلة عيد الفطر المبارك!
من حيث الاساس، إن المصرف المركزي مسؤول عن السياسة النقدية وهذه السياسة مربوطة مع السياسات الاقتصادية الأخرى التي تديرها الحكومة، وبالتالي فنشر المصروفات هو تخصص اصيل لوزارة المالية المسؤولة عن السياسة المالية وليس المصرف المركزي، ومن حيث الأساس أيضاً أن من يقول أن المشكلة في ليبيا هي اقتصادية هو إنسان غير مدرك لحقيقة الأمور أو أنه انسان يناقش التفاصيل بعيداً عن الجوهر، فالمشكلة في ليبيا هي سياسية بإمتياز، وأن الاختلالات الاقتصادية قد بدأت في العام 2014 عندما بدأت المشكلة السياسية وماتبعها من اقفالات للنفط وحروب وصراعات هنا وهناك، وبالتالي فإن العودة لأصل المشكلة هو أساس الحل.
إننا اليوم كليبيين نقف على مفترق طرق، فمع صعود ترامب لسدة الحكم هوت اسعار النفط الخام، وبالتالي صرنا في ليبيا مجبرين لامخيرين على تنويع مصادر دخلنا لسد فجوة التمويل، ثم اللحاق بركب دول الخليج التي سبقنا بشوط كبير، وأرى أنه قد آن الأوان للاستماع للخبراء والعاقلين والاقتداء بتجارب دول وشعوب عانت مثل ماعانينا.
من حيث التفاصيل، فالبعض يرى أن قانون تحريم الربا في ليبيا رقم 1 لسنة 2013 قد حرم المصرف المركزي من أحد أهم أدواته (سعر الفائدة)، والذي جعل من سعر الصرف هو الآلية الوحيدة التي يتحرك بها منذ 2013 وحتى اليوم، ومن جانبي لا أتفق كلياً مع هؤلاء، فالبلد بحاجة لتفعيل سوق الأوراق المالية أيضاً، ولضبط الإنفاق الحكومي وفقاً لقانون ميزانية، وإلى ضبط العمالة الوافدة، والاهم من هذا هو تفعيل دور الاجهزة الرقابية ومكافحة الفساد بلاهوادة.
من ناقلة القول أن الصرف بدون قانون ميزانية، وإختلال عمل الاجهزة الرقابية،واستمرار برنامج مقايضة النفط الخام بالمكرر مع استمرار توقف عمل المصافي المحلية، وفوق كل هذا طباعة أكثر من 100 مليار من العملة المحلية مع الاحتفاظ بالاصدارات القديمة في التداول سيقودنا حتماً للافلاس عاجلاً او آجلاً، وبحل هذه المعضلات الأربعة فإن الاقتصاد الوطني سيستقر، ولكنه لن يتعافى لأن هناك عوامل أخرى تؤثر فيه.
في يومنا الحاضر، تعيش السياسات التجارية والمالية والنقدية في معزل عن بعضها، وبدوره أصدر مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي القرار رقم 18 لسنة 2025 بشأن تخفيض قيمة العملة الوطنية ليسد الفجوة في التمويل لكي لا يكون مضطر للسحب من الاحتياطي، ولكن هذا بدوره سيزيد من إعداد الفقراء بسبب تضخم الاسعار، وسيوسع الهوة بين طبقة المرفهين والطبقة المسحوقة، وفي الوقت الذي بدأ فيه الحديث عن أن القرار قد تم اتخاذه بموافقة نصف الأعضاء وليس اغلبهم، وهو مايتعارض مع قانون المصارف الليبي، فإن الأولى بالمصرف المركزي أن يتوقف على إقراض الحكومة (عدا الباب الاول) على أن يتم ذلك صرف الباب الاول حصراً من خلال منظومة أيسر التابعة للمصرف المركزي.
دون الحاجة الى إعادة مانشروا، فقد تطرق عدداً من الخبراء الليبيين وعلى رأسهم الدكتور محمد ابوسنينة والدكتور محمد الشحاتي والدكتور عمران الشايبي إلى عرض آليات مهمة لمعالجة بعض التشوهات الحالية في الاقتصاد الليبي حيث يتمثل جوهر هذه المعالجات في تقنين الانفاق أي جعل الصرف يتم فقط من خلال قانون ميزانية، وإلى إغلاق السواد الأعظم من السفارات والقنصليات والمندوبيات الليبية بالخارج والتي يبلغ عددها ضعف عدد سفارات وقنصليات ومندوبيات الولايات الأمريكية بالخارج، مع تشديد الرقابة على على الاعتمادات المستندية وتحويلات العملة، وسحب ثم حرق جميع الأوراق النقدية من فئة 50 دينار ضمن خطة تقتضي سحب وإعدام أوراق نقدية لاتقل قيمتها عن 50 مليار دينار من السوق المحلي، ورفع التعريفة الجمركية على السلع الكمالية وغير الضرورية، وإعادة المصافي المحلية للعمل، وبالتوازي مع كل هذا تتم إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على المدى المتوسط من خلال الدمج والإلغاء وفقاً لمعايير صحيحة، وتصحيح أوضاع العمالة الوافدة.
في كل الأحوال، شئنا أم أبينا فالعودة إلى الاقتصاد الاصيل (الزراعة والصناعة) هو شئ محتوم، ويجب علينا أن نصحوا من الأوهام التي نعيشها والتي نتجت عن المرض الهولندي الذي أصاب ليبيا كما أصاب دول قبلها، وعلينا في قادم السنوات تأمين غذائنا من أرضنا الواسعة، والتوجه للصناعات الصغرى والمتوسطة، والتوسع في الصناعات القائمة على النفط الخام، ودعم الابتكار واقتصاد المعرفة.
ختاماً، أرى أن المشكلة في ليبيا هي سياسية وليست اقتصادية، وأن بعض ماتم سرده في هذا المقال هو مجرد آليات أو معالجات لمشكلة تراكمية منذ عقود، ونحن بحاجة لسنوات من التفكير والتخطيط لنعيد لبلادنا هيبتها ولينعم شعبها بالعيش على أرضه.