كتب : د. عبدالله ونيس الترهوني اخصائي اقتصاديات النقل
قبل أن تصبح حادثة جنوح السفينة Ever Given شيئاً من الماضي بعد أن شغلت الناس وحبست الانفاس لاكثر من 140 ساعة متواصلة ليتنفس الجميع بعدها الصعداء، فقد رأيت ومن وجهة نظري الشخصية أن أسرد أول الدروس المستفادة من هذه الحادثة غير المسبوقة.
قد لايعلم الكثيرين أن Flag of convenience السفينة المنكوبة يملكها مستثمرون يابانيون وتشغلها شركة ايفر قرين التايوانية وأنها مسجلة تحت علم بنما أو علم الملائمة
لمزايا هذا النوع من الاعلام، وأنها واحدة من بين 13 سفينة مشابهه لها وتشغلها نفس الشركة ، وقد أطُلقت هذه السفينة للخدمة في شهر مايو 2018 ، أي أنها من الأجيال الحديثة لسفن الحاويات الخليوية والتي تعد أكبر سفينة حاويات في العالم وقت إطلاقها للخدمة وهي بحق كذلك إذا ماعرفنا أن طولها يبلغ 400 متر(أي أن طولها يساوي طول 4 ملاعب كرة قدم تقريباً) وعرضها 60 متراً واقصى غاطس لها يبلغ 16 متراً وتبحر بسرعة تصل الى 23 عقدة بحرية (43 كم / ساعة) وبحمولة إجمالية تبلغ 221 الف طن من البضائع والتي يتم نقلها حصراً من خلال 20 الف حاوية في كل رحلة، والجدير بالذكر أن هذا النوع من السفن ينقل الحاويات بين الموانئ المحورية فقط، وبالمناسبة فإن عدد الموانئ المحورية الواقعة في شمال افريقيا إثنان فقط ويقعان في طرفي القارة ألا وهما بورسعيد وطنجة، وأن اقرب ميناء محوري إلى ليبيا هو ميناء فاليتا والذي يتوسط المسافة بين المينائين المحورين المذكورين قبله.
من نافلة القول أن قناة السويس التي يزيد عمرها عن 150 سنة قد شهدت عدة إغلاقات بسبب الحروب ولكن اغلاقها بسبب حادث وبهذا الشكل هو سابقة لم تحدث من قبل، وفي كل الاحوال تمر عبر قناة السويس كل تجارة الحاويات بين دول اوروبا وحوض المتوسط من جهة وبين باقي الموانئ الواقعة جنوب وشرق قناة السويس من جهة أخرى لسببن اثنين، الاول كون أن قناة السويس تسمح بمرور كل سفن الحاويات ومن كل الاحجام، والثاني هو أن السلع والمنتجات التي يتم شحنها في الحاويات هي سلع ومنتجات نهائية أو شبه نهائية وهي بالطبع غالية الثمن وسريعة العطب بالمقارنة مع السلع الاولية والمواد الخام طبيعية المصدر والتي يتم نقلها عبر سفن لايمكنها العبور من القناة كناقلات النفط الخام وناقلات الصب العملاقة، ومن جانب آخر يبلغ متوسط ايراد القناة بين 12 و 14 مليون دولار يومياً، وبالتالي فإن إغلاق القناة لمدة 6 ايام قد جنبها إيراد يقترب من 80 مليون دولار.
بالرغم من ترجيح أن خطأ الربان هو سبب الحادث، وقبل أن تخرج نتائج التحقيقات عن أسباب جنوح السفينة المذكورة وهي التي تعودت على المرور من القناة منذ اطلاقها للخدمة وحتى جنوحها في 23 مارس فإنه على الارجح أن تكون العوامل الجوية عامل آخر ومساعد في جنوح السفينة وذلك لأن المساحة المعرضة للريح قد تكون سبباً في تحولها إلى شراع ضخم ساهم في استعراضها للريح والذي يبلغ طوله طول السفينة وهو 400 متر وعرضه الذي يصل لخمسين مترا والذي يساوي إرتفاع الحد الحر للسفينة أعلى خط العوم وإرتفاع 8 طوابق من الحاويات معاً، ومن ألطاف القدر أن طول السفينة أطول بكثير من عرض القناة وبالتالي جعلها تجنح قًطرياً وليس عرضياً ليُسهل ذلك من إنقاذها وجرها في نهاية المطاف، وفي كل الاحوال فإنه فور إنقاذ السفينة ووصولها إلى منطقة البحيرات المرة واستنئناف الحركة خلال القناة فإن المعركة الفنية قد انتهت وبدأت المعركة القانونية والتي تأخذ وقتاً طويلاً وسينتج عنها تعويضات بالمليارات للمتضررين من هذا الاقفال.
عطفاً على كل ماسبق فإن الاشقاء في مصر مطالبون بتحديد أسباب الحادث ثم عرض نتائجه، ثم عليهم توسيع أعمال التعميق (التكريك) وجعل أعماق القناة متساوية أو على الاقل متقاربة في أي مكان من القناة ، فيما يرى البعض أن هناك حاجة لتوسيع القناة إستناداً الى القواعد والاعراف الدولية في انشاء الموانئ ومداخلها وهو أمر مكلف جداً ويأخذ حيزاً من الزمن، وفي المقابل فإنني أرى أن قناة السويس ستبقى شريان حيوي للتجارة العالمية في السنوات القادمة وأن الحديث عن بديل لها في الوقت الراهن لايعدو كونه أكثر من نكتة سمجة، فموقع القناة الجغرافي وحده لايقبل المنافسة (ميزة تنافسية)، ناهيك عن أن حمولة السفينة الوحيدة العملاقة العابرة للقناة تعادل حمولة مايقرب من 100 قطار، كما أن السفن لاتحتاج لبنية تحتية لكي تبحر كالسكك الحديدية أو الطرق وغيرها من الميزات التنافسية الأخرى للنقل البحري، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه مع قرب إطلاق سفن تصل حمولتها الى 24 الف حاوية: هل وصلت سفن الحاويات الى أقصى حجم لها، أم أن خاصية اقتصاديات الحجم لسفن الحاويات (مع إهمال تكلفة التشغيل اليومية) ستجعل منها أكبرحجماً ويالتالي ستبحر بعيداً عن قناة السويس وأنها ستأخذ مساراً أطول بين موانئ غرب اوروبا والمتوسط وباقي موانئ قارتي أستراليا وشرق آسيا؟