كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني مقالاً
أشرت في مقال عن الاقتصاد الريعي مطلع العام 2020 إلى أن المشكلة في ليبيا تكمن في عدم وضوح وتكامل السياسات، مانتج عنها تضارب الآليات والبرامج وتداخل الاختصاصات، وبالتالي صارت جميع أجهزة الدولة تعمل في جزر منعزلة عن بعضها البعض، كما أن القطاع الخاص الليبي قد تم تكبيله بحزمة تشريعات عفا عليها الزمن، وأن لجنة السياسات بمجلس الوزراء لم تنعقد منذ أزيد من 12 عاماً، كما تناولت أيضاً وفي مقال من جزئين أهمية تحديد هوية الإقتصاد الليبي، وفي موضوع ذو صلة سأتناول في قادم الأسطر وبشكل مختصر موضوع السياسات العامة ثم سأتناول وبشئ من التفصيل السياسات الاقتصادية.
السياسات العامة أو السياسات الحكومية public policy هي دليل للإجراءات التي تتخذها السلطات التنفيذية للدولة ضمن حدود القانون لإنجاز أهداف محددة من خلال إستخدام الموارد البشرية والطبيعية، وبعبارة أخرى هي النشاطات الحكومية أو القرارات اللازمة لتنفيذ البرامج التي تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية، اقتصادية واجتماعية التي تضعها الحكومة وفقاً لمعايير محددة، ومن حيث طبيعتها فإن السياسات العامة تشير إلى ما تنوي الحكومة فعله (ايجاباً) أو الامتناع عن فعله (سلباً) لتحقيق المصلحة الوطنية ، وبالتالي هي مُلزمة للجميع دون استثناء، وصار من الضروري التمييز بينها.
لكل حكومة برنامج عمل أو استراتيجية قصيرة المدى والتي تنفذها من خلال عدد من السياسات المتنوعة بغرض تحقيق أهداف الحكومة الكلية، وتجدر الاشارة إلى أن هناك عدداً من الفروق بين الاستراتيجية والسياسة اهمها: أن الاستراتيجيات ثابته ولها نطاق واسع وتبحث في النتائج على المدى البعيد، وأن الاستراتيجيات تحوي عدداً من السياسات والعكس غير صحيح،وإذا كانت الاستراتيجيات غير مرنه فالسياسات مرنة، حيث أنها تمثل مجموعة القواعد التي التي تُسهل عملية إتخاذ القرار، ولكنها تبقى بحاجة لتطويرها ضمن عملية مستمرة، وليس ضمن دورة التخطيط السنوي فقط .
إجمالاً يمكن تصنيف السياسات العامة إلى سياسات تنظيمية ، تنموية، توزيعية ، إعادة التوزيع، ومن بين طيف واسع من السياسات العامة فإن هناك سياسات اقتصادية تقليدية تتساند معاً وتتفاعل بحيث تتكامل في نتائجها وهي المالية والنقدية والتجارية.
إن المقصود بالسياسات الاقتصادية الكلية أو سياسة الاقتصاد الكلي Macroeconomics هي الكليات في الاقتصاد والتي تقوم على توفير بيئة اقتصادية لأجل تعزيز الاقتصاد وإستقرار النمو الاقتصادي العام، وليس الجزئيات التي تقوم بدراسة السلوكيّات الاقتصاديّة لوحدات الاقتصاد، وسياسة الاقتصاد الكلي بدورها تضم عدداً كبيراً من الاليات، وهي تشمل سياسات الإنتاج والتوزيع والاستثمار، والادخار، والتصنيع، والسياسات الزراعية والتجارة الداخلية وغيرها من المجالات، وبالتالي فهي متداخلة ومتشعبة وتعمل عمل المظلة وتطال عدد من الوزارات ،وهي تهدف الى تحقيق نسب نمو اقتصادي عالية أو مقبولة على الأقل ، والحفاظ على مستوى توظيف الايدي العاملة، والحفاظ على مستوى عالٍي من الانفاق الاستثمارى ومنع حدوث الركود، والحد من العجز فى ميزان المدفوعات، والرفع من مستوى معيشة المواطنين، واستقرار الأسعار ، وتخفيض حدة الفقر.
- السياسات المالية، وهي ذلك الجزء من السياسة العامة الذي يتعلق بتحقيق إيرادات الدولة عن طريق عدد من الادوات والتي تشمل جباية الضرائب والجمارك وغيرها من وسائل الإيرادات، فالحكومة عن طريق هذه السياسة تستطيع أن تؤثر على مستوى الطلب الكلي للدولة، وعلى مستوى النشاط الاقتصادي، والتحكم في الانفاق الحكومي، وتختص وزارة المالية برسم وتنفيذ هذه السياسة، وهي تضم في نفس الوقت عدد من السياسات المتفرعة منها مثل الإيرادية وخصوصاً الضريبية والجمركية وغيرها، وسياسات الدعم بما فيها شبكات الأمان الاجتماعي، وسياسات التجنيب المالي كحالة الصناديق والحسابات الخاصة مثلاً، إجمالاً يمكننا القول أن السياسة المالية تؤثر في: الطلب الكلي، ومستوى النشاط الاقتصادي؛ والادخار والاستثمار؛ وتوزيع الدخل؛ وتخصيص الموارد.
- السياسات النقدية: ويشير المفهوم التقليدي للسياسة النقدية إلى أنها عملية استخدام مجموعة من الأدوات والسياسات الهادفة إلى التأثير على المعروض النقدي بشكل خاصّ وإحتواء التضخم، والأداء الاقتصادي بشكل عامّ، ويختص البنك المركزي برسم وتنفيذ السياسة النقدية، كما أن البنوك التجارية تلعب هي الأخرى دوراً هاماً في السياسة النقدية، وبالتالي فإن الحكومة ووزاراتها لاتتولى رسم أو تنفيذ هذه السياسة، وتهدف او تساهم السياسة النقدية عن طريق ادواتها في تحقيق الاهداف الاتية: تحقيق معدلات نمو عالية – تحقيق استقرار سعر النقد – خلق توازن في ميزان المدفوعات، ولتحقيق ذلك تستخدم السياسة النقدية أدوات منها ماهو تدخل عام ويشمل سياسة التدخل في الأسواق النقدية، والاحتياطات الالزامية، ومنها ماهو تدخل مباشر (سياسات مباشرة) كوضع إطار عام للائتمان (تأطير الائتمان)، كما تشمل السياسات النقدية أيضاً إدارة السيولة المحلية (عرض النقود)، والاستقرار النقدي، وقياس وإدارة معدلات للتضخم، وإدارة سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، وإدارة الإحتياطي النقدي المتاح لدى البنك المركزي، ولابد أن تتماشى السياسة النقدية مع السياسة المالية وليس العكس , وأن تكون كلتا السياستين موجهة نحو أهداف اقتصادية حقيقية مثل خلق فرص عمل جديدة، وتقليص حدة الفقر، وغايتهما تحقيق الاستدامة المالية.
السياسة التجارية : ونعني بها الأدوات والاجراءات التي تتخذها الدولة في نطاق تعاملها الخارجي لتحقيق اهدافها الاقتصادية وذلك من خلال الحد من الواردات و تشجيع الصادرات، وجذب رؤؤس الاموال الخارجية للاستثمار في داخل البلد، والاعانات…الخ، فالدولة تتدخل عن طريق وزارة الاقتصاد لتطبيق أدوات السياسة التجارية لغرض تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات، ولحماية الاقتصاد المحلي من الاغراق و/أو المنافسة الأجنبية ، وتشمل السياسة التجارية عدداً من الاليات والاساليب والتي تنحصر جميعها إما في حرية التجارة أو في تقييد التجارة من خلال الحمائية التجارية، ومن بين عدد من آليات وأساليب وأنظمة السياسة التجارية على سبيل الذكر لا الحصر نظام التعريفة الجمركية وهي نوع من الأساليب السعرية، ونظام الحصص وهو نوع من الأساليب الكمية، ونظام الإعانات للمنتجات المحلية، بالإضافة إلى الأساليب الإدارية المتعلقة بمنح تراخيص الاستيراد.
على الرغم من أن كل مُاذكر اعلاه هو تقليدي ومتعارف عليه إلا أن البعض يرى أن تضاف لتلك السياسات سياسة اقتصادية أخرى وهي السياسة الاستثمارية والتي تعني الخطوط العريضة للانفاق الرأسمالي من خلال توضيف الأموال العامة في استثمارات متنوعة بالخارج و/أو تهيئة البيئة الداخلية للاستثمار، وكل هذا يتم بهدف دعم الميزانية ولزيادة الناتج القومي العام NDP و/أو زيادة مدخرات الدولة لمواجهة تحديات مستقبلية او لتلبية حاجات الاجيال المستقبلية من فائض الموارد الحالية، ويجب أن تعمل السياسة الاستثمارية للربط بين الاستثمار الداخلي(المحلي) والخارجي عن طريق سلسلة القيمة المضافة على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، اي ان تعمل السياسة الاستثمارية على تنمية العائد وتقوية العلاقات وديمومة الأعمال وليست مجرد صفقة أو صفقات وبشرط أن يكون مستوى المخاطر مقبولاً، أما مرتكزات السياسة الاستثمارية فتتنوع من بلد لآخر ولكنها تدور حول بعض المرتكزات الهامة منها توفر السيولة، المؤشرات الاقتصادية، والتنوع الاستثماري، والبيئة المناسبة والمقصود بها توفر الأمان والمناخ الملائم بالتوازي مع الاستثمار في جوانب قانونية أي لايتعارض الاستثمار مع القوانين والتشريعات كتجارة المخذرات…الخ، واخلاقية اي لا يتعارض الاستثمار مع الدين والأخلاق كالدعارة وبيع الأعضاء البشرية….الخ.
في ذات الإطار ، هناك مفهوان غاية في الأهمية ووجب توضيحهما أولهما العجز في الميزانية والذي يعني الرصيد السالب للميزانية العامة للدولة والناجم عن أسباب عديدة يطول شرحها، والعجز في الميزانية في حد ذاته ناتج عن كون النفقات تزيد عن الإيرادات، مما يضطر الحكومةإلى تمويل هذا العجز من خلال الاقتراض، والذي بدوره يفاقم الدين العام ويُضعف النمو الاقتصادي، ودون الحاجة للحديث عن الفساد فإن كل من زيادة الإنفاق الحكومي و/أو محدودية الموارد يعدان أبرز أسباب العجز في ميزانيات الدول.
أما الثاني فهو الدعم الذي يُعد تشويهاً للاقتصاد، والدعم يعني وبكل بساطة تدخل الحكومة في تفاصيل الاقتصاد، والتي من المفترض بها أن تكون بعيدة عنه كل البعد، إلا أن هذا التدخل أو الدعم قد يكون مبرراً أحياناً لخلق توازن أو لكبح جماح الأسعار ….الخ، والشواهد على الدعم الحكومي (في هذه الايام) كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال: (1) تقديم الكثير من حكومات العالم لحزم متنوعة من الدعم الحكومي العيني أو النقدي لكبح جماح الأسعار وتضخمها بسبب الحرب الاوكرانية الروسية، (2) حزم المساعدات والدعم الذي قدمته عدد من الدول لمواطنيها اثناء تفشي الجائحة خلال العامين 2020 و 2021 ، (3) دعم كثير من الدول الرأسمالية للفلاحين.