كتب: د. عبد الله الترهوني
هناك ثلاث مفاهيم هامة لابد من توضيحها والتمييز بينها وهي النمو والتنمية والتنمية المستدامة، فالنمو هو تغيير، وهو مؤشر، وبالتالي ينبغي أن يتم قياسه بصورة دقيقة، وقد يكون النمو بالزيادة (موجب) او بالنقصان او التراجع (بالسالب) ، وهناك نوعان من النمو: نمو كمي ونمو نوعي، أما مفهوم التنمية فهو من أهم المفاهيم التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين ونعني به تحقيق زيادة سريعة تراكميّة ودائمة عبر فترة من الزمن في الإنتاج والخدمات نتيجة استخدام الجهود العلميّة لتنظيم الأنشطة المشتركة للحكومة والشعب، وبحسب الامم المتحدة 1956 فان مفهوم التنمية ينصّ على أنّها هى العمليات التي بمقتضاها تُوجّه الجهود لكلٍّ من الأهالي والحكومة بتحسين الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحليّة؛ لمساعدتها على الاندماج في حياة الأمم والإسهام في تقدّمها بأفضل ما يمكن.
لايمكن للتنمية أن تكون تنمية ما لم تحقق قيمة مضافة ، وما لم تأخذ في الاعتبار أيضاً البعد المحلي لجميع المناطق بما فيها النائية ، وأن تكون هذه التنمية مستدامة قدر الامكان، ولذلك ظهر مصطلح التنمية المكانية الذي يحدد إمكانيات الإقليم وتموضعه داخل الاقتصاد الكلي، وكيف يمكن له أن يحقق نمواً من خلال تحديد تنافسية القطاعات، فعلى سبيل المثال الأقليم البحري (كأساس للاقتصاد الأزرق) يستخدم الصيد البحري والسياحة الشاطئية كمحرك لباقي قطاعات الاقتصاد الكلي الأخرى، والإقليم الذي به تربة صالحة لصناعة الأسمنت و مواد البناء كمثال آخر يجب أن يكون مركز نشاط صناعة مواد البناء…وهكذا، وبالتالي فأنه وفقاً لبيانات صحيحة ودقيقة سيتم إعداد خارطة اقتصادية وطنية شاملة تحدد بكل وضوح مصادر ومحددات الدخل القومي البديلة وكيفية توزيعها جغرافياً ، ولكن قبل ذلك لابد من أن يتم تعريف هوية الاقتصاد الوطني أولاً وبكل وضوح، وذلك بهدف خلق التنمية الصحيحية والمستدامة على المدايين المتوسط والبعيد.
أما مفهوم التنمية المستدامة فهو مفهوم حديث لايزيد عمره عن ثلاثين عاماً ونعني به نشاط شامل لكافة القطاعات سواء في الدولة أو في المنظمات أو في مؤسسات القطاع العام أو الخاص أو حتى لدى الأفراد، حيث تشكل عملية تطوير وتحسين ظروف الواقع، من خلال دراسة الماضي والتعلم من تجاربه، وفهم الواقع وتغييره نحو الأفضل، والتخطيط الجيد للمستقبل، وذلك عن طريق الاستغلال الأمثل للموارد والطاقات البشريّة والمادية بما في ذلك المعلومات والبيانات والمعارف التي يمتلكها المقيمون على عملية التنمية، مع الحرص على الإيمان المطلق بأهمية التعلم المستمر واكتساب الخبرات والمعارف وتطبيقها، ولا تقتصر التنمية على جانب واحد أو مجال واحد فقط من المجالات الحياتيّة بل تشمل التنمية الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية والعسكريّة والإنسانية والنفسية والعقلية والطبيّة والتعليمية والتقنية وغيرها، بل تتعداها لكل الموارد المتاحة او الممكنة في المستقبل، وذلك بهدف رفع وتحسين مستوى المعيشة لدى الأفراد في يومنا الحاضر، مع ضمان الحق في معيشة أفضل للأجيال القادمة وفق مفهوم ديمومة الموارد.
الجدير بالذكر أنني كنت قد أشرت مراراً وتكراراً إلى ضرورة خلق بدائل اقتصادية حقيقية للاقتصاد الليبي بعيداً عن النفط ، كما كنت قد أشرت في أكثر من مناسبة إلى ضرورة بناء الانسان قبل بناء العمران ، فالتنمية البشرية في الحالة الليبية تمثل حجر الزاوية وهي ضرورة قصوى بالمقارنة مع التنمية المكانية، ومن هنا يأتي دور الدولة أو الحكومة في التوزيع الأفقي للعوائد الكلية ، والمبنية أساساً على التخطيط و التكامل بين كامل مكوناته، وضرورة توفير البنية التحتية المتكاملة مع تسهيل إجراءات و تسجيل الأعمال من خلال ما يسمي بـ ” Ease to doing business index “، مع منح إعفاءات ضريبية وجمركية للاستثمار بالمناطق البعيدة والأقل حظاً لغرض تحقيق هدفين: الأول هو خلق تنمية مكانية ، أما الثاني هو تشجيع الهجرة العكسية من المدن إلى خارجها.
إجمالاً فإن كل ماتم سرده لا يتناقض مع أية رؤى مستقبليه للبلد، بل ويعزز الامن القومي ، وهو يتوافق أيضاً مع رؤية البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة UNDP، والذي يدعو إلى ضرورة أن تقوم الاقاليم والمحليات بتطوير مواردها الطبيعية والبشرية، وتسويق خصائصها المميزة، وبالتالي فإنها ستفلح في فتح شراكات جديدة، وخلق بيئة استثمار صحيحة وجذب مزيد من المستثمرين سواء كانوا محليين أو أجانب، وكل هذا يتوافق مع ما أكدت عليه أغلب الدراسات التنموية الليبية والتي دعت بكل جلاء إلى ضرورة خلق بدائل دخل غير النفط ، وذلك بالتركيزعلى مكونات وفرص الاقتصاد الجديد، وتنشيط القطاع الأهلي (الخاص) ، ومنح الأولوية للمشاريع الصغرى والمتوسطة، وذلك للحد من شأفة البطالة ولمعالجة تضخم الجهاز الحكومي وترهله، وللخروج من مأزق الاقتصاد الريعي المحفز لبيئة وثقافة الفساد والنهب، والمعتمد أساساً على مورد واحد يتميز بالنضوب وبالتذبذب وفق الأحوال والظروف العالمية خارجياً، أوالحالة الأمنية داخلياً.
إن المشكلة الحقيقية في ليبيا ومنذ مدة سنوات طويلة خلت تكمن في عدم وضوح وتكامل السياسات، وأن الجميع يعمل في جزر منعزلة عن الآخرين ، والتي قد تنتج (غالباً) تعارضاً في السياسات بين الإقليم المحلي (البلديات أو المحافظات) والحكومة المركزية ، وذلك من خلال تكبيل المواطن بقوانين قديمة عفى عليها الزمن ، وأنها لم ولن تخدم التنمية الشاملة والمنشودة ، وأود أن أشير إلى أن ليبيا قد خطت خطوة ممتازة قبل سنوات خلت، ولكنها سرعان ما تراجعت فيها، وهي أنها قد استعانت بفريق من استشاريين عالميين على رأسهم البروفيسور مايكل بورتر (الاسم الأول في الإدارة حول العالم) لتشخيص الحالة التنموية الليبية فيما عُرف (برؤية ليبيا 2019) ، وبكل أسف فالبيئة الليبية كانت ولازالت بيئة طاردة وليست قابلة لهكذا أفكار فما بالك بتطبيقها، وقد جرى معالجة وتعديل تلك الرؤية أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة من قبل المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي ، ومن قبل مراكز البحوث وبالأخص الجامعات في سبيل وضع التعديلات (لتكون متماشية وفق المناخ السائد) ولتلائم بدورها العقلية السائدة ونمط التفكير المسيطر.
أختم بالقول أنه قد تم إستحداث لجنة تُعنى بأهداف التنمية المستدامة ضمن الهيكل التنظيمي لوزارى التخطيط وهي نقطة ايجابية ، وخطوة هامة جداً وإن جاءت متأخرة ، كما تجدر الاشارة أيضاً لوجود بعض الكوادر الوطنية في مختلف مستويات الهرم التخطيطي والتنفيذي بالبلاد تسعى لوضع (رؤية 2030) ، كما أن هناك مبادرات ورؤى أخرى تمتد إلى سنة 2040 ، ولكن أحوال البلاد والمعروفة للجميع لاتساعد حتى في مجرد بدء رسم الخطط وإن كان التخطيط يجري بعيداً عن الأضواء والضجيج والمناكفات، وفي المقابل فأجواء البلاء ومنذ سنوات لاتساعد بالمطلق على تنفيذ أي مخططات تنموية شمولية ولو أجزاء بسيطة منها، ومن هنا أجدد دعوتي إلى ضرورة أن تكون التنمية البشرية هي الأساس وهي الهدف البعيد للتنمية في ليبيا وأنها مُقدمة على غيرها من أوجه التنمية، وأن المخطط التنموي في ليبيا يجب أن يُبنى على البدائل المتاحه مثل اقتصاد المعرفة والتعليم الفني والتقني ، وعلى دعم وتشجيع المشاريع الصغرى والمتوسطة ، ودعم حديثي التخرج ، مع تحفيز القطاع الأهلي الذي يمثل قاطرة التنمية ، وبعيدا كل البعد عن النفط والغاز كموارد ريعية ووحيدة كما هو عليه الحال الآن.