اختارت لكم صدى مقال هذا الاسبوع بقلم الخبير الاقتصادي عبد الحكيم التليب ، تحدث من خلاله عن عوائد النفط ، وكيفية الاستفادة منه ….
“مر النفط في ليبيا الأن حوالي 60 سنة تم خلالها ضخ الاف الملايين من براميل النفط التي لو اطلقت في الصحراء الليبية الشاسعة لغطتها وحولتها الى بحيرة هائلة من الزيت الأسود، وكانت العوائد، ولا زالت، بمئات المليارات.
النتيجة الوحيدة التي تحققت بهذه الثروات المجانية الطائلة هي بلد شبه مدمر يعاني من البطالة وعاجز حتى عن توفير الخبز والدواء والكهرباء، والأنكى من ذلك أن السيطرة على هذا المورد يمثل السبب الرئيسي للصراعات التي أصبحت مرشحة لكي تتحول الى حرب أهلية مدمرة وسبب في تقسيم وتشرذم هذا البلد، رغم أن الجميع تقريبا يتفقون على ان النفط هو ملك وحق لجميع الليبيين بالعدل.
بإمكان أهل هذا البلد الإستمرار في التصرف في عوائد هذا المورد عن طريق الإستمرار في تكرار نفس الوسائل البدائية الإقطاعية التي تم تجريبها طوال الستين سنة الماضية، وسيضمن لهم ذلك بالتأكيد تحقيق المزيد من نفس النتائج المزرية التي تم تحقيقها في الماضي.
أما أذا قرر أهل هذا البلد أنهم تعبوا وسئموا من هذا العبث فأن البديل متوفر ومتاح وقد قدمه مشروع دولة المواطنة منذ بضع سنوات.
من المستحيل بطبيعة الحال الإحاطة بكل تفاصيل هذا البديل في بضعة أسطر أو صفحات، ولكن هذه لمحة مختصرة ومبسطة الى اقصى الحدود ومكتوبة بلغة الشارع لتقريب الصورة وتسهيل الفهم:
الوضع الحالي يقوم على وضع جميع العوائد تحت تصرف الدولة نيابة عن باقي الشعب على أن تتحمل الدولة ـ نظريا ، مسئولية توفير سبل وظروف الحياة للناس، ونتيجة هذا الترتيب معروفة للجميع، وقد مضت الأن أكثر من 60 سنة على ظهور النفط في ليبيا وبلغت قيمة الموارد مئات المليارات من الأموال دون ان ينعكس ذلك على حال الغالبية العظمى من الناس، ومن الممكن القول بثقة ان وضع البلاد والعباد على الأقل في فترة الخمسينيات قبل ظهور النفط كان بصفة عامة أفضل من الوضع الحالي بعد كل هذه المليارات المهدورة والسنوات الضائعة، والأخطر من ذلك هو الفشل الكامل في بناء أو توفير أي بديل لمصدر النفط، ولا تزال ليبيا بعد 60 سنة من الفرص السانحة تعتمد بصفة كاملة ومطلقة على هذا المورد المؤقت، وهذا الترتيب أدى أيضا الى نشوب الصراعات من أجل السيطرة على هذا المورد، بل أن هذه الصراعات أصبحت الأن مرشحة لكي تتحول الى حرب أهلية مدمرة وشبح التقسيم والتشرذم.
النفط سينتهي عاجلا أو أجلا، والبوادر اصبحت ترجح قرب نهايته، والمؤكد هو ان العصر الذهبي للنفط قد أنتهى الى غير رجعة، وأن هناك إحتمال قوي ان الطلب العالمي سيتراجع لصالح الطاقات البديلة، وأن كميات الأنتاج والنفط المعروض للبيع ستزداد في دول كثيرة بسبب تطور تقنيات الإنتاج وإكتشاف إحتياطيات جديدة، وهذا يعني ان أمام هذا البلد فرصة محدودة لتوظيف مورد النفط في الوقت بدل الضائع لمحاولة توفير مصدر بديل.
البديل الذي يطرحه مشروع دولة المواطنة يقوم على إنهاء هيمنة ووصاية الدولة على عوائد هذا المورد وإعادتها بالعدل الى أصحابها الحقيقيون والشرعيون الذين هم جميع مواطنوا هذا البلد، والمقصود طبعا ليس مسرحية “توزيع الثروة” الساذجة التي كان القذافي يلوح بها للجماهير.
المقصود هو توفير تركيبة تنظيمية وأليات عملية تكفل إعادة عوائد هذا المورد بالعدل الى أصحابه الشرعيون وتمكينهم في نفس الوقت من إستثمار هذه العوائد والموارد بما يؤدي الى تحقيق هدفان اساسيان:
الهدف الأول والأهم هو بعث وتحقيق نهضة تنموية إقتصادية حقيقية يتولى المواطنون أنفسهم القيام بها وتعود عوائدها عليهم وبما يؤدي الى خلق بديل حقيقي للنفط والقضاء على ظاهرة إنسداد الأفق التنموي وإنتشار البطالة والفقر والفراغ وتردي الخدمات، وهو الوضع الذي يؤدي الى إنتشار وإستفحال مشاعر الإحثقان والسخط والغضب، وهذا يؤدي بشكل تلقائي الى التمرد والجرائم والإنفلات الأمني.
الهدف الثاني هو تحقيق توزيع عادل لموارد النفط بين جميع المواطنين بما ينهي ظاهرة التهميش والغبن وينهي الصراع على التحكم في عوائد النفط من أساسه،
الوصول الى تحقيق هذه الأهداف سيحتاج الى العمل بالتوازي وفي نفس الوقت على محورين ضروريان:
المحور الأول يقوم على الشروع في إحداث تغييرات بنيوية جذرية في هيكلية الدولة بالإعتماد على مبادئ الحكومة الصغيرة، وأحد أهم نقاط هذا المحور هو التخلص من النظام الضريبي التقليدي الموجود حاليا وإستبداله بنظام ضريبي حديث مصمم لتحقيق التوازن بين توفير عوائد كافية لتمويل الدولة والحكومة على المستوىان المركزي والمحلي، وفي نفس الوقت تحفيز وتشجيع المبادرات والنشاط الإقتصادي والمشاريع، وينبغي ان تكون وحدات الحكم المحلي مثل البلديات جزء أصيل في هذا النظام الضريبي بحيث تتوفر لتلك الوحدات مساحة كافية لرسم سياستها الضريبية الخاصة بها ويكون من حقها التصرف المباشر في عوائدها الضريبية دون الحاجة الى العودة الى الحكومة المركزية، وهذه النقطة هي أهم عناصر (الحكم المحلي) الحقيقي مقارنة بنظام ( الإدارة المحلية ) التقليدي الحالي الخالي من المضمون والذي لا معنى له، ولا طعم ولا رائحة!
المحور الثاني يقوم على توظيف وسائل الإستثمار المالي الحديث المعروفة مثل اسواق الأسهم والسندات وغيرها، وفي نفس الوقت توزيع عوائد النفط في صورة إيصالات أو كوبونات على المواطنين تكون صالحة فقط لشراء الوسائل الإستثمارية المتاحة مثل السندات الحكومية والبلدية وأسهم الشركات وغيرها من وسائل الإستثمار المعروفة، وبما يفتح المجال أمام بعث نهضة تنموية إقتصادية حقيقية ويوفر ليس فقط مصادر التمويل المالي بل أيضا وسائل التنظيم والحوكمة والمراقبة والمنافسة المعروفة التي توفرها أسواق المال الحديثة، وهذا سيؤدي الى بعث حركة إستثمارية إقتصادية تنموية تعتمد بشكل متوازي وشفاف على المواطنين والشركات الأهلية المساهمة، وسوف يؤدي الى تكوين شركات مساهمة ذات حجم ووزن إقتصادي مؤثر وقادرة على المنافسة وتخصيص الأموال الكافية للإبحاث والتطوير، وسيفتح الباب أيضا الى قيام مشاريع مشتركة بين الحكومة والقطاع الأهلي على المستوى الأستراتيجي على أن يكون تمويل هذه المشاريع عبر نفس أليات الإستثمار المالي الحديث مثل السندات الحكومية وأسواق الأسهم وغيرها بما يكفل قيام شراكة حقيقية متوازنة وشفافة بين القطاعين الخاص والحكومي بما في ذلك على مستوى الحكومات المحلية ( البلديات). مع ملاحظة أن الوسائل التنظيمية والتشريعية والفنية التقنية والمعرفية اللازمة لتكوين وتوسيع وتشغيل وسائل الإستثمار المالي المذكورة قد وصلت الى مرحلة من التطور والنضج بحيث أصبحت متاحة ومتوفرة ويمكن الحصول عليها وتطبيقها بسهولة ويسر وفي فترة زمنية معقولة لا ينبغي ان تتجاوز سنة اذا توفرت الإرادة والنية الصادقة.
دور الحكومة سيعود الى وضعه الطبيعي، وستخرج الحكومة من مأزق الجمعيات الإستهلاكية وتوفير طماطم الحكة ومشاكل القمامة وغيرها، وسيصبح إهتمامها مقصور ومركز على المهمة الطبيعية للحكومات المتمثلة في توفير البيئة الأمنة المستقرة والمحفزة لتشجيع المواطنين على المبادرة وممارسة الأنشطة الإقتصادية وحفظ الأمن والنظام وفرض القوانين والرقابة ومنح التراخيص وتسوية الخصومات وغيرها من المهام المشابهة، وتتحصل الحكومة في المقابل على نسبة محددة ومتفق عليها من عوائد النشاط الإقتصادي في صورة ضرائب ورسوم لتغطية مصاريفها.
هذه نماذج وأمثلة مبسطة من الإصلاحات والتغييرات (البنيوية) التي سيحتاجها هذا البلد للخروج من المأزق، وبدون هذه الإصلاحات والتغييرات فأن فرص الخروج من المأزق ستبقى رهن الصدفة وحدها، والله الموفق.
المشروع: #الإنتقال_من_دولة_الإقطاع_الى_دولة_المواطنة
الوسيلة أو الأطار العملي: #مبدأ_الحكومة_الصغيرة”