كتب : د. محمد أحمد
حوكمة الشركات مفهوم إداري سياسي حديث تبلور في نهاية التسعينات بعد الكثير من الانحرافات التجارية ذات العلاقة السياسية، فبعد حركة الخصخصة التي انطلقت في الثمانينات وتخفيف قبضة الدولة على الأنشطة الاقتصادية مالت الشركات المخصصة إلي هدف تعظيم الربح و إهمال الواجب الاجتماعي للنشاط التجاري الذي كان القطاع العام ملتزماً به نتيجة ارتباطه العضوي بأنظمة و قوانين الدولة ، وبسبب أن الدولة لم يكن بمقدورها أن تبسط سيطرتها على الدورة الداخلية للشركات فإن مفهوم الحوكمة بدأ كخيار طوعي تعتنقه الشركات بهدف تحسين دورها المجتمعي المتمثل فيما بدأ يسمى إدارة أصحاب المصالح” Stakeholder” “Management بدلاً من إدارة حاملي الأسهم Share Holder Management.
هذا الخيار الطوعي كان يهدف إلى تجنب انتقام أصحاب المصالح من الشركات نتيجة تغولها في هدف تعظيم الأرباح وتقليل التكلفة والذي قد يدفعها مثلاً لتجاهل البيئة “تصريف مواد سامة في الأنهار”، استغلال الأطفال في التصنيع “في الدول الفقيرة”، تطوير منتجات ضارة بالآداب أو الصحة، وغيرها من النشاطات التي تدر أرباحاً و تفرز أضراراً بالغة.
من ناحية ثانية كان امتناع الشركات عن القيام بنشاطات كان القطاع العام يقوم بها موضوع آخر لبروز الحاجة لمفهوم الحوكمة حيث تخلت مثلاً شركات النقل العام عن التذاكر المجانية للكبار أو الأطفال وأوقفت رحلاتها للمناطق النائية.
هذه العوامل دفعت المفكرين الاقتصاديين والإداريين إلي تطوير مفهوم الحوكمة والذي نال دفعة كبيرة بعد الأزمات المالية الكبيرة في شرق آسيا و الولايات المتحدة في نهاية القرن الماضي و بداية القرن الجديد ، فقد كان القطاع المالي قطاعاً محكماً تحت سيطرة دقيقة للدول دفاعاً عن أموال المودعين أو حاملي الأسهم، حيث أن الثقة في النظام المالي هي ركيزة تطور النظام الرأسمالي القائم على مبادئ الائتمان النقدي المحلي وعابر الحدود،
وقد مرت تجارب مريرة على البشرية بفعل ممارسات رأسمالية مدفوعة بفساد سياسي كبير على أعلى المستويات أتذكر منها كارثة يونيون كاربيد في الهند عندما تسرب من الشركة الامريكية غازات سامة أدت إلي مقتل مئات البشر، أو عندما انهارت العملات الآسيوية و سببت كوارث كبيرة لدول النمور الاسيوية، أو عند الانهيار المفاجئ لشركتي أنرون Enron أو ورلد كوم World Com بعد فقاعات يقال أنها كانت متعمدة “بتداول داخلي Inside Dealing” أدت إلي خسارة جسيمة لمستثمرين خارج إطار القرار الاستثماري والعلاقات الداخلية في تلك الشركات.
لذا فأن الحوكمة تهدف إلي جعل الممارسات التجارية للمؤسسات الاقتصادية أفعالاً نزيهة وعادلة في الحاضنة المحلية أو الدولية على السواء، تتجنب فيها المؤسسات ردود أفعال انتقامية بسبب تجاوزها أو تقصيرها المتعمد بما قد يتسبب في آثار سلبية على محيط الشركة من أصحاب المصالح في نشاطها.
مفهوم الحوكمة بدأ يتخذ موقعا متميزا من الأداء التجاري النزيه للوصول إلى الأهداف التالية:
1. تحسين الإنتاجية
2. تعزيز الموقف الائتماني للشركة
3. تقليل التكلفة الرأسمالية
4. استجذاب العمالة الكفؤة
5. تحسين القيمة الاجتماعية
وبالرغم من أن مبادئ الحوكمة “الاختيارية” لا زالت في مهدها وتتطور تدريجيا في الاداء المؤسسي لتأخذ مكاناً بارزاً بسبب تنافسية الاقتصاد، حيث ستجد الشركات المتبينة لهذه المبادئ “بالرغم من تكلفتها العالية أحيانا” بيئة أعمال أكثر تجاوباً على المدى الطويل يسمح لها بالنمو والتوسع بعكس تلك الشركات التي لا تتبع هذه المبادئ.
أهم هذه المبادئ هو الانفتاح على المجتمع الحاضن وذلك بالإفصاح عن أهداف المؤسسة، طرق عملها، نتائجها بصورة دورية ومنتظمة. صحيح أن هناك إفصاح قانوني تحتمه أما قوانين الدولة أو لوائح البورصات للشركات المساهمة ألا أن الإفصاح المقصود تحت بنود الحوكمة يمتد إلى الكثير من الدورات الداخلية للمؤسسة كالشخصيات التي تتولى إدارتها و طرق الأعمال فيها و كيفية تعاملها مع العالم خارجها.
مفهوم الحوكمة ومبادئها لم يقتصر على شركات القطاع الخاص أو الشركات العامة المخصصة بالرغم من أن بدايته كانت تستهدفها، الرأي العام أتضح له بعد تطبيق الحوكمة على شركات القطاع الخاص أهمية تطبيقها أيضا على شركات القطاع العام المتبقية في دول كثيرة من العالم بل حتى على أجهزة الدولة الرسمية. وبالرغم من أن تمويل هذه الشركات أو الأجهزة يأتي عن طريق فرض أما الأسعار الجبرية أو الضرائب الجبرية ألا أن العامة أصبحوا يبدون كثير من التذمر بسبب انخفاض كفاءة وجودة الخدمات والسلع العامة، و لم تعد الحصانة التي كان يكتسبها هؤلاء الرسميون بسبب تحصنهم بشعارات الوطنية والتضحية مقبولة من الجمهور الذي بدأ يستعمل تهديد الخصخصة ضد أي تقصير من هذه الجهات العامة.
هذه المقدمة كانت ضرورية للقارئ غير الملم بموضوع الحوكمة قبل الدخول في مناقشة أبعاد مفهوم الحوكمة على قطاع النفط في ليبيا ، لا جدال أن قطاع النفط الليبي لا يزال يقع ضمن سلطات أو ربما احتكار القطاع العام بصورة مطلقة، الوضع الذي لا يعتقد أنه سيتغير في فترة قصيرة، وهناك أسباب كثيرة موضوعية لهذا الاعتقاد لا يتسع المجال لنقاشها في هذا المقال، ولكن هذا لا يعفينا من المطالبة بتطبيق مبادئ الحوكمة بصورة جيدة على القطاع النفطي خصوصا في ظل غياب قوة الدولة وضعفها الواضح.
دائما في أوقات ضعف السلطة المركزية فإن الشركات النفطية الوطنية تبدأ في تكوين دولة داخل الدولة وهي ظاهرة معروفة حصلت في دول مثل فنزويلا وإندونيسيا ونيجيريا ، بمجرد تراجع السلطات السيادية فإن الشركات تبدأ في رفع أسوار حول نفسها وتبدأ في التصرف وفقاً لإجراءات داخلية خاصة تهدف إلى تحصين نفسها من الفوضى السياسية، ظاهرياً يكون هذا الأمر إيجابياً حيث يشير أن الشركة تحمي الثروة النفطية من تهديدات سياسية وقد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما .
ولكن المشكلة أن هيكلية الشركات لا تتناسب للعب دور شامل خصوصاً إذا ما امتدت الفوضى خارج نطاق المؤسسات السياسية والتشريعية ووصلت إلى المستويات المحلية ، وتاريخياً ووثائقياً فأن أكثر القرارات السيئة التي اتخذتها الشركات الوطنية للنفط كانت في ظل الانغلاق على نفسها المصاحب لهذه الظاهرة.
المشكلة تبدأ عندما يمتنع المجتمع عن الاستجابة لمطالب الشركة الوطنية للنفط نتيجة عدم شعوره بأي إحساس مادي إيجابي من تواصل العمليات النفطية “ربما ليس لذنب ارتكبته الشركة بل نتيجة سوء توزيع الدخل النفطي”.وفي ظل الانغلاق الذي تمارسه الشركة أمام المجتمع المحيط وعدم توضيح الأفق المستقبلي فأن هذه الظاهرة مرشحة فقط للتفاقم ، اللجوء هنا إلى البربوجاندة لن يفيد في كسب التعاطف بقدر ما يمكن أن يستفاد من تطبيق صحيح لنظام حوكمة فعال.
في نظام حوكمة محكم يجب على الشركة أن تخرج من القوقعة التي أدخلت نفسها فيها بغرض الحماية باعتماد نظام إفصاح شفاف عن مجمل نشاطاتها التجارية والتي في الحقيقة تتعلق بثروة مملوكة للشعب على طول وعرض رقعة الدولة،
قد يجادل لبعض أن المؤسسات الوطنية للنفط لم تكن كلاسيكياً تفصح عن نشاطاتها في فترات زمنية سابقة وكانت في نفس الوقت فعالة والرد هنا أن البيئة السياسية والاقتصادية مختلفة إلى حد بعيد ، فسلطات الدولة التنفيذية تعرضت لضربة قوية وأصبحت شرعيتها مشكوك فيها إلى حد كبير، كما أن السلطات الرقابية المنبثقة من السلطة التشريعية تعاني من نفس المأزق، من هنا فأن التبني الطوعي لمبادئ الحوكمة أصبح ضرورة كبيرة ليس في القطاع النفطي “وهو الأهم” بل في القطاعات الأخرى كقطاع الكهرباء وقطاع الاستثمار الخارجي وقطاع البنوك.
لا يوجد عندي شك بأننا سنقابل أزمات حادة مستقبلاً ربما نعيش جزء كبير منها حالياً بسبب ضبابية الرؤية ليس على العامة فقط بل حتى على مستوى القيادات السياسية العليا دعونا نعطي مثلاً بصفقة ماراثون-توتال والتي سمعنا عنها في الصحافة فقط بسبب قوانين الإفصاح الأمريكية وليس لأي عامل محلي ولا زلنا إلى اليوم لا نعرف على وجه الدقة ما حدث أو سيحدث ألا من وكالات الأنباء العالمية.
أرجو ألا يفهم إدراجي هنا بأنه نقد لأي جهة كانت فعقيدتي الراسخة هي أن العقل المؤسسي “للمؤسسة الوطنية للنفط” ووطنية منتسبيها هي حصن للثروة النفطية الليبية، ولكن يمكن أن يفهم على أنه البحث عن الأسلوب الأمثل الذي توفره تقنيات الإدارة الحديثة لضبط السلوك المؤسسي في ظل ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية استثنائية.
الخطوة الأولى تتلخص في تحديد مجموعة أصحاب المصالح Stakeholder الذي يتعامل معهم القطاع النفطي بغرض تصميم استراتيجية للتعامل معهم أما جماعيا أو فردياً وفقاً لنظام حوكمة دقيق. في رأيي هم:
1. الشعب الليبي عموماً بصفته المالك الأصلي للثروة النفطية.
2. السلطات التنفيذية “ذات العلاقة” بصفتها المصدر الأساسي لتمويل القطاع.
3. السلطات الرقابية “ذات العلاقة” بصفتها المراجع والضابط القانوني لأعمال القطاع.
4. السلطات المحلية “ذات العلاقة” بصفتها الحاضنة لنشاط العمليات.
5. الشركات العالمية التي تحمل عقود نافذة سواء في تقاسم الإنتاج أو تقديم خدمات.
6. الشركات المحلية من القطاع الخاص التي تحمل عقود نافذة في تقديم الخدمات.
7. المصارف المحلية والخارجية التي يتعامل معها القطاع
8. القوى العاملة “الفعالة” في القطاع النفطي.
طبعاً يحتاج تصميم استراتيجية حوكمة فعالة إلى كثير من العمل الفني و ليس محله هذا الإدراج ولكن هو ليس مستحيلاً و قد قمت شخصياً وقام ليبيون كثيرون غيري في المساهمة في وضع لمسات لأنظمة حوكمة لشركات نفطية عالمية ووطنية.
دعوني مثلاً أعطي لمحة على التعامل مع النقطة الأولى وهي التعامل مع صاحب الثروة الأساسي وهو الشعب. هنا يجب تتبع الخطوات التالية:
1. تصميم سياسة طاقة وطنية تأخذ في الاعتبار المدى الطويل لاحتياجات الدولة من مصادر الطاقة وكيفية توفيرها وتوزيعها واستغلال الفائض في التصدير وتعظيم قيمته.
2. الإفصاح عن الشراكات التجارية والإنتاجية العالمية والاتفاقات معها بصورة مستمرة في وسائل أعلام “رسمية” .
3. الإفصاح عن الأسعار الرسمية للنفط الليبي والكميات المصدرة مع مراعاة الطبيعة التنافسية السرية والالتزامات القانونية مع الزبائن
4. الإفصاح عن التحديات الرئيسية من النواحي التقنية والمالية وأثرها على العملية الإنتاجية بطريقة علمية واضحة عبر وسائل الاعلام “الرسمية”
5. تشجيع والإسراع في ادخال القطاع الخاص “المنظم” إلى العمليات الإنتاجية النفطية سواء في الصناعة الفوقية أو الصناعة التحتية
6. تقديم نبذ مختصرة عن قيادات القطاع وقدراتهم الفنية وإنجازاتهم.
7. تطوير العلاقات مع السلطات المحلية وجماعات المجتمع المدني “بدون تورط مالي” في مناطق الإنتاج
8. الابتعاد عن وسائل البروباجندة واللجوء دائماً إلى التصريحات الرسمية