كتب: الخبير بالمجال النفطي محمد الشحاتي مقالاً
الأزمات في الغالب ظواهر فجائية يعجز العقل البشري عن توقع حدوثها لأسباب كثيرة منها عدم المعرفة بالأساس أو تجاهل المعرفة بالرغبة بالخيال أو أحيانا التخطيط لنشوبها عن قصد، ولدى انفجار الأزمة فأن كل الخيارات مطروحة فأما احتوائها السريع عن طريق تفعيل الإجراءات الاحتياطية المكلفة أو الهروب للأمام لتفادي نتائجها المدمرة أو تناسيها وتحمل عواقبها.
هناك علم لإدارة الأزمات لا يقتصر على التعامل مع الأزمة من تاريخ حدوثها إلى نهايتها، بل أيضا يبحث في تجنب حدوثها من الأساس، وبالرغم من أهمية الجانب الأخير ألا أن التاريخ الإداري والاقتصادي والسياسي كذلك حافل بالأمثلة على تجاهل أصحاب القرار العمل بالإجراءات الاحتياطية التي يقترحها الخبراء لتجنب الأزمات أساسا يرجع ذلك إلى عدم دقة التوقعات في كثير من الأحيان واستمراء الواقع المعاش في أحيان كثيرة.
الأزمات المعاصرة مثل كوفيد-19 في 2020 والازمة المالية العالمية في 2008 والحروب الداخلية في العالم العربي والنزاعات العرقية في آسيا والهجرة غير النظامية باتجاه أوربا أضافة إلى الازمات العالقة والمستدامة كانتشار الفقر والتغيير المناخي وصعود الفكر العنصري أثبت من ناحية عولمية أن مجابهتها يحتاج إلى تضافر جهود بشرية ائتلافية خارج قدرة الدول منفردة مع فكر علمي خلاق يقفز بالعقل البشري خارج صناديق القولبة والانانية سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الجهوي أو العرقي.
اليوم العالم يعيش مذعورا من أزمة طاقة قادمة يمكن أن تعصف بكثير من الجهود البشرية التي تمت على مدى قرنان من الزمن لتوفير الرفاهية والاطمئنان للإنسان في مختلف البقاع. أزمة برد قارص لا يمكن احتماله بدون تدفئة للبيوت، أزمة وقود لا يمكن تدبرها لجماهير غفيرة تنتقل يوما لأعمالها ومصادر رزقها، أزمة مصادر تغذية لمصانع تنتج سلع وسيطة ونهائية. أزمة تهدد سلسلة العرض وتكشف الكثير من الشركات أمام احتمالات افلاس متتالية.
المشكلة الأساسية في موضوع الطاقة اليوم هو الجدل العقيم الذي يدور حول موضوع المناخ وحلم التحول الكامل إلى مصادر متجددة للطاقة والتخلص من الاعتماد على الوقود الاحفوري وبينما يحفز هذا الجدل أسباب عديدة تقع بين البيئية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ألا أن السير نحو الوقوع في أزمة كان واضحا منذ البداية نتيجة المبالغة في الحلم مقابل إمكانيات الواقع.
طريق الخروج من أزمة كوفيد-19 على سبيل المثال كان نموذجا لهذا المنهج. ففي بدايات الازمة كانت المخارج الوردية التي تجاهلت تماما أصلا المشكل هي الغالبة. تناسى الجميع أن أصل المشكلة هو نظام “فيروس” وليس مثلا حيوي بكتيريا أو طفيليات يمكن القضاء عليها عن طريق العلاج بالأدوية، كان الأمر واضحا منذ البداية أن على البشرية أن تطور لقاحا ضد الفيروس وأن النجاح في مواجهته سيعتمد على السرعة التي سيتم بها اكتشاف هذا اللقاح، بعض المدارس المتسرعة خصوصا الفرنسية توجهت إلى الوعود بتصنيع أدوية ستعالج المرض وليس للتحصين منه كان على البشرية أن تتبع الخيار الأول وهو التحصين ضد المرض مهما كان وعرا وطويلا.
على جانب الطاقة فأن الضغوط الكبيرة البيئية والسياسية على السواء والتي تمارس على منتجي الوقود الاحفوري بتقليص الاستثمارات في هذا المجال لم يقود ألا لتعثر في سلسلة عمليات التزويد على المستوى الافقي والعمودي بوريس جونسون في بدايات أزمة كوفيد-19 أطلق تصريحا انجليزيا باردا حين قال “استعدوا لمواجهة فقدان احبائكم” كان ملخصا للتوجه الذي ستتبعه بريطانيا في مواجهة الازمة وهو ما تم في الحقيقة. هذا ما يدعوني أن أتسائل إذا ما كان التوجه الحالي في مجال الطاقة هو الوجه الآخر لهذه السياسة “استعدوا لفقد سياراتكم ودفايتكم وحريتكم الشخصية من أجل التحول لمصادر طاقة أخرى مهما كان الثمن”.
اختلال التوازن في الأسعار بين مصادر الطاقة ووصول سعر الغاز الطبيعي إلى ما يعادل 180 دولار/برميل مكافئ نفط تطور لافت وسيغير اقتصاديات كثيرة في الصناعة النفطية مبدئيا فأن الأفضلية هي استرداد النفط لارتفاع سعره نسبيا عن الغاز الطبيعي لذا فأن الغاز يتم حقنه في الآبار للمحافظة على نسب استرداد عالية من السوائل النفطية.
الأسعار الحالية تغري المنتجون بتخفيض عمليات الحقن لاستغلال فرصة بيع الغاز بأسعار عالية، ولكن هذا بالتأكيد سيؤثر على الاحتياطات السائلة القابلة للاسترداد لتضيع وربما للأبد. هذا بدون شك سيسبب في نقص في العرض من السوائل النفطية وتفاقم الأزمة ألا في حالة واحدة هي أن يستبدل النفط بمصدر آخر وهو الكهرباء هنا نقع في محظور التفكير الرغبوي.
فالكهرباء المنتجة من المصادر المتجددة لن تستطيع على الاطلاق توفير الجسر الآمن للإنسانية في طاقة مستدامة وخصوصا في اقتصاديات الدول النامية، اليوم الصين تعاني من عجز كبير في توليد الكهرباء وكذلك الهند وسوف تنتقل هذه الظاهرة عبر كل الدول النامية وربما الدول بعض الناشئة الأمر بهذه الصورة هو استمرار للأزمة بأوجه أخرى.
ينطبق هذا إلى حد كبير على أوهام التنوع الاقتصادي وتخفيض تخصيص الموارد الاستثمارية إلى قطاعات النفط في الدول المنتجة من ناحية استراتيجية صحيح يجب على الدول المنتجة للنفط أن تفعل سياسات التنويع، ولكن يجب ألا يضر هذا التوجه بتخصيص الاستثمارات الواجبة لقطاع انتاج النفط والغاز وهو ما يحدث فعلا، بل هناك تمادي في قطع الاستثمارات لتوجيهها إلى القطاع الاستهلاكي وهو أمر أكثر أضرارا وتعميق للأزمة.
اليوم يصعب على أي محلل اقتصادي أن يتنبأ بكيفية توجه الازمة في ظل ما يبدو أنه دورة اقتصادية عملاقة ستسبب بدون شك وفقا لقانون الطرد المركزي تناثر الكثير من القوى الصغرى التي لن تستطيع مجاراة الدوران السريع في هذه الدورة.
قد يكون غريبا أن أطلب من الإدارة الليبية الحذر الشديد في الفترة القادمة والتفكير العميق في كيفية اجتيازنا لهذا الازمة، فالدورة الاقتصادية العملاقة التي أعقبت صعود الصين في بداية الالفية انتهت بأزمة مالية عالمية كانت سببا مباشرا في هزة سياسية واجتماعية مدمرة في منطقتنا لم يسلم منها تماما ألا من أتخذ احتياطات التثبيت الضرورية لا يجب أن يغرنا صعود سعر النفط أو الغاز نتيجة الأزمة العالمية للطاقة بقدر ما يجب علينا أن نخطط لكيفية إدارة الأزمة بطريقة عقلانية وبعيدة عن التفكير الرغبوي والعاطفي وقصر النظر الذي نشتهر به.