كتب : محمد الشحاتي الخبير بمجال النفطي مقالا
خلال السبعون سنة الماضية عشنا في ليبيا تجارب متكررة من عمليات اختيار رؤساء الأجهزة في السلطة التنفيذية أحيانا وزراء وأحيانا أمناء أو رؤساء هيئات أو مؤسسات أو حتى مصالح حكومية.
اختلفت النظريات والآراء وفقا للمرحلة الزمنية التي نعيشها عن الحاجة إلى إطار تنظيمي لنشاط اقتصادي أو اجتماعي معين ومدى الحاجة لضمه إلى أحد الأجهزة القائمة أو فصله في إطار تنظيمي مستقل.
بالطبع هذا ليس ظاهرة محلية قاصرة على ليبيا، بل هو نمط سياسي عالمي تتحكم فيه الحاجات الملحة للمجتمعات في ظل حدة الصراع السياسي على الحكم.
على سبيل المثال كيف يمكن تنظيم قطاع الطاقة في المجتمع الليبي، هناك نظريات متعددة في هذا الخصوص وقد تم تجريب معظمها في هيكلية السلطة التنفيذية.
النظرية الأولى تسير وفقا للنموذج العالمي في تأطير قطاع الطاقة حيث يتم جمع كل الأنشطة المتعلقة به تحت إطار تنظيمي واحد يمكن أن يكون وزارة أو مؤسسة أو مصلحة وفقا للرؤيا السياسية التي تتحدد بالتأسيس على كيفية توزيع الموارد المالية في الدولة.
عادة هذه الأنشطة هي قطاعات البترول والتكرير، قطاعات توليد الكهرباء من المصادر المتعددة وتوفير المياه، قطاعات الأنشطة النووية والطاقات البديلة، والنظرية الإدارية هنا تقول إن توحيد هذه القطاعات في إطار تنظيمي واحد يمكن من تحقيق التجانس Synergy بينها بحيث يمكن في هذه الحالة تحقيق الاكتفاء من الطاقة بأقل التكاليف وبأعلى كفاءة.
من ناحية نظرية يفترض إن هذه الهيكلية هي من أكثر السياسات كفاءة في موضوع الطاقة وقد تم تجريب هذا النموذج في دول صناعية متقدمة أو حتى نامية وأثبت فعالية كبيرة في تحقيق الأهداف الوطنية.
الالتواء الذي نواجه في ليبيا وفي معظم الدول النفطية إن القطاعات النفطية غير موظفة إداريا لإشباع السوق المحلي من الطاقة بقدر ما هي مصممة لتصدير النفط والمواد الهيدروكربونية للخارج للحصول على العملة الصعبة.
هذا يقرب النشاط النفطي إلى حد كبير من قطاعات المالية والاقتصاد وليس إلى قطاع الطاقة تحديدا ألا بنسبة صغيرة جدا، لذا فأن محاولات دمج القطاع النفطي في هيكل توفير الطاقة كانت تجربة إلى حد كبير فاشلة ومتخبطة إداريا، وكان ادارتهم على الدوم بصورة منفصلة، حتى لو تم تعيين وزير واحد للطاقة.
هناك تقاطع آخر واضح أيضا بين نشاطات الاقتصاد والصناعة وذلك من منطلق مبدأ تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الواردات وتعظيم الصادرات، لا توجد دراسات تطبيقية عن هذا الموضوع ومدى نجاحه في تحقيق الأهداف الوطنية، ولكني أميل فعلا أن هذان النشاطان ينبغي أن يدمجا في أي هيكلية للسلطة التنفيذية وهو أصبح فعلا تقليد متبع خصوصا مع موضة التوجه إلى آليات السوق والابتعاد عن التخطيط المركزي التي تكتسح حاليا اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
تبرز هنا قضية أو معضلة أخرى تتعلق بالسيرورة الإدارية وتطور العقل المؤسسي لهذه الأجهزة التنفيذية.
عمليات الدمج والفصل تهدد إلى حد كبير فعالية هذه الأجهزة حيث يتم تشتت التفكير المؤسسي وتتعثر خطوات التطوير الإداري، وأحيانا كثيرة تعاني الوزارات أو المؤسسات الوليدة مما يعرف بسوء الهضم بعد الابتلاع ومقاومة داخلية للطرف الأضعف والذي يوجه له الاتهام في التأخير وعدم الكفاءة. في هذا المجال أتذكر كيف كان صعبا هضم المصافي ومصانع البتروكيماويات من قبل المؤسسة الوطنية للنفط التي تم تأسيسها أساسا كمشروعات تابعة لأمانة الصناعات الثقيلة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات.
في العموم هناك مجالات رئيسية لا يمكن أن يتم تقسيمها أو دمجها وهي تلك المتعلقة بالوظائف السيادية للدولة مثل الخارجية، الداخلية، الدفاع. هناك قضايا رئيسية في هذا الخصوص فعلى سبيل المثال كيف يمكن تصنيف الامن الخارجي للدولة فهل يقع تحت جهاز الخارجية أو جهاز الداخلية أو الدفاع أو يمكن أن يكون مستقلا ويتبع السلطة العليا في الدولة.
في كل تصنيف من التصنيفات السابقة هناك ملاحظات عديدة يمكن أن تقود إلى انحرافات كبيرة وأضرار كبرى كما عشناها وقرأنا عليها في تجارب ليبيا وكذلك الدول الأخرى. هنا تكون الحنكة السياسية والتجربة هي الميزان في عملية توزيع الاختصاصات وهيكلية الأجهزة وقنوات التبعية الإدارية.
هذا يقودنا إلى دور الافراد في هذا المجال بمعنى آخر دور الوزراء أو رؤساء الهيئات أو المؤسسات.
لا شك أن هناك شخصيات مميزة لعبت أدوارا فريدة في تطوير الأجهزة التي قاموا بإدارتها وأضافوا عليها نتيجة لمبادرات فردية لا زال الجمهور الليبي يذكرهم بها حتى اليوم.
وللحقيقة فأن معظم هؤلاء وبينما كانوا شجعانا ومبادرين في أعمالهم، ولكنهم لم يكن لهم أن يحققوا ما انجزوه بدون دعم فني من أفراد مخلصين للهدف الذي قام من أجله هذا الجهاز.
وبالرغم من أني لا أود الخوض في تتبع تاريخ الأجهزة التنفيذية، ولكن هناك أجهزة واضحة قامت عليها نهضة ليبيا الحديثة وعلى الجميع محاولة الدفاع عنها بغض النظر عن النظام السياسي الموجود في السلطة، صحيح أن سوء الاختيار لشخص سيؤثر بسلبية شديدة على عمل تلك الأجهزة، ولكن إلى حد ما يمكن الركون إلى أن القوة الفنية التي ساندت الجهاز التنفيذي على مدى عدة عقود ستكون نوعا ما ضمان للاستمرار.
المشكل الحقيقي سيكون في تكسير الدعامات التي تأسست تاريخيا لإدارة الدولة.