كتب الخبير الاقتصادي محمد الشحاتي مقالًا حيث قال فيه:
في المقال السابق تناولنا موضوع أثر رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي نتيجة للتضخم الكبير في الولايات المتحدة على الاقتصاد الليبي، وأوضحنا أن هذا الرفع سيسبب في انحسار كميات كبيرة من الدولار في السوق الدولية نتيجة عودتها إلى الولايات المتحدة للاستفادة من الاستثمار الآمن الذي يوفره معدلات الفائدة المرتفعة ولتفادي المخاطر الاستثمارية الخارجية خصوصا في دول العالم النامي.
وقد استخلصنا أن سعر الفائدة المرتفع على الدولار سيحفز الدول النامية وخصوصاً تلك التي تربط عملاتها المحلية بالدولار على رفع سعر الفائدة المحلية لمنع انتقال القيمة من عملتها إلى الدولار أو تلك المرتبطة بالدولار.
ومن المعروف أن معظم الدول المصدرة للنفط تربط قيمة عملاتها بالدولار الأمريكي وهذا ما دفع دول الخليج العربي المصدرة للنفط إلى المسارعة في رفع معدلات الفائدة لديها لمنع أي انتقال في القيمة.
فقد أعلن البنك المركزي السعودي رفع معدل إتفاقيات إعادة الشراء “الريبو” بمقدار 0.5%، من 1.25 إلى 1.75%، كما رفع المركزي السعودي معدل اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس “الريبو العكسي” بمقدار 0.5%، من 0.75 إلى 1.25%.
وقال بنك الكويت المركزي يوم الأربعاء، إنه قرر رفع سعر الخصم بواقع ربع نقطة مئوية، من 1.75% إلى 2.00%، اعتبارا من الخامس من مايو/أيار، عقب قرار مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي زيادة أسعار الفائدة.
وفي سياق متصل، قال مصرف البحرين المركزي يوم الأربعاء، إنه رفع سعر الفائدة الأساسي للودائع لمدة أسبوع بمقدار 50 نقطة أساس إلى 1.75%، وزاد المركزي البحريني أيضا سعر الفائدة للودائع والإقراض لليلة واحدة 50 نقطة أساس إلى 1.5% و3.0% على الترتيب، ورفع سعر فائدة الودائع لمدة أربعة أسابيع بمقدار 75 نقطة أساس إلى 2.5%.
وقال مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي اليوم الأربعاء إنه قرر زيادة سعر الفائدة الأساسي بمقدار 50 نقطة أساس اعتبارا من يوم الخميس.
وقرر المصرف المركزي لدولة الإمارات أيضاً الإبقاء على السعر الذي ينطبق على اقتراض سيولة قصيرة الأجل من المصرف المركزي من خلال كافة التسهيلات الائتمانية القائمة عند 50 نقطة أساس فوق سعر الأساس.
وقرر مصرف قطر المركزي رفع فائدة الإيداع 50 نقطة أساس إلى 1.50% وفائدة الإقراض 25 نقطة أساس إلى 2.75%.
تهدف هذه السياسات النقدية إلى الحفاظ على العملة الصعبة كداعم لقيمة العملة داخل نطاق الدورة النقدية المحلية وبدون هذا رد الفعل فأن المستثمرين سيقومون بتحويل استثماراتهم المالية إلى وجهات أخرى مما سيقود إلى أزمة في الدورة النقدية وما يستتبع ذلك من ضغط نزولي على قيمة العملة المحلية.
رفع سعر الفائدة بالطبع سيؤثر على عملية الاستثمار المحلية وقد يؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي، ألا ان هذا الجانب السلبي مبرر من حيث إن سعر الفائدة المرتفع سيخفض من عرض النقود وبالتالي سيحاصر الضغوط التضخمية ويجعل النمو المالي الظاهري نموا حقيقيا في الإنتاج.
وكما هو معروف فأن سعر صرف الدينار يتم تحديده بقرار من مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي ويتم ربطه بسلة حقوق السحب الخاصة الصادرة عن صندوق النقد الدولي، وتمثل هذه السلة قيم خمس عملات عالمية: الدولار 41.73%، اليورو 30.39%، اليوان الصيني 8.33%، الجنية الإسترليني 8.09%.
وبينما بدأ الاحتياطي الفيدرالي في تسريع رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي فأن البنوك المركزية الأخرى تستعد للحاق بالركب.
التباطؤ في رفع سعر الفائدة يعني بالضرورة انتقال القيمة من العملة المحلية إلى الدولار أو العملات الأخرى المرتبطة به، وسيدفع حتما إلى خفض القيمة النسبية للعملة المحلية تجاه الدولار.
الخيارات أمام مصرف ليبيا المركزي محدودة حيث إن الاحتياطي الإجباري للبنوك الليبية يصل إلى 20% ونظريا لا يمكن زيادة هذه النسبة دون حدوث ضرر بالغ للحركة المصرفية في البلد.
مرة أخرى التأخير في اتخاذ قرار بتعديل عبء الائتمان في السياسة النقدية الليبية بأي طريقة سيعني انخفاض مضطرد لقيمة الدينار.
على النخبة الاقتصادية والمالية والسياسية أن تدخل في حوار سريع مع المؤسسة الدينية حول موضوع الوضع الائتماني للدينار الليبي وسعر الفائدة حيث إن التباطؤ في هذا سيسبب مشاكل مالية معقدة في المستقبل القريب منها استفحال السوق الموازية للدولار، انخفاض قيمة الدينار، زيادة الاضطراب في الوضع المالي للدولة.
نظريًا يحتاج الدينار الليبي إلى سعر فائدة يصل إلى 3% للاستقرار عند قيمته الحالية، وفي حال وجود نية لرفع قيمة الدينار سيحتاج الامر إلى رفع هذا السعر إلى 5-7%، هذا سيضع ضغوطا على الاستثمارات الخاصة وسيحدد التعافي الاقتصادي عن طريق التنمية وهذا سيتطلب سياسات تنموية تحفيزية من الدولة ، سيكون هناك حاجة ملحة إلى مراقبة النظام المصرفي وقياس قدرته Stress Test على التعامل مع الواقع الائتماني الجديد.
ربما سيحتاج الامر إلى بعض القرارات المؤلمة لحماية النظام المصرفي من إخفاقات فجائية تؤثر على ثقة المتعاملين مما قد يهدد بفشل كامل.
ولسوء الحظ فأن الاستثمارات في القطاع الإنتاجي أو حتى الخدمي ستواجه انحسارا في الفترة القادمة نتيجة التغييرات الهيكلية التي ستمر بها الأسواق على المستوى الإقليمي والعالمي، ولا يعني هذا أنها ستتوقف تماما، ولكن سيكون هناك المزيد من الحذر الاستثماري خصوصا في إنشاء مشاريع جديدة وسترتفع عوائق الدخول والاختراق في الصناعات القائمة.