Skip to main content
الشحاتي يكتب : موقع ليبيا من التكامل الاقتصادي في المنطقة "عوامل التاريخ والجغرافيا"
|

الشحاتي يكتب : موقع ليبيا من التكامل الاقتصادي في المنطقة “عوامل التاريخ والجغرافيا”

كتب الخبير الاقتصادي محمد الشحاتي :

أثارت زيارة الرئيس التونسي قيس بن إسعيد إلى ليبيا خلال الأيام الماضية قضية الارتباط الاقتصادي لليبيا مع محيطها الجغرافي، بينما توجد قضايا أخرى كثيرة تربط ليبيا بجارتها العربية الافريقية مثل القضايا الأمنية، العسكرية، السياسية، الاجتماعية ألا أن القضية الاقتصادية قد تشكل المحور الأساسي في العلاقة بين البلدين خصوصا في الوقت الحالي.


في علم العلاقات الدولية يتم تحليل قوة العلاقة بين الدول واتجاهها المستقبلي وفقا لعوامل متعددة أهمها الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا ومن ثم تأتي المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية والثقافية.


تمثل الجغرافيا العامل الأساسي في هيكلية العلاقة وهيئتها التي تنتج انماطا إنسانية معينة تمتد من التعاون إلى الصراع مما يشكل العلاقة عبر التاريخ ويصبغها بألوان اجتماعية وثقافية متعددة.


موقع ليبيا الجغرافي وامتداده الواسع يجعل من تحليل علاقات التكامل والصراع مع محيطها مشكلة دراسية معقدة من زاوية التحليل السياسي، فالمحلل السياسي التونسي على سبيل المثال لا يأخذ ألا ثلاث اعتبارات جغرافية هي، ليبيا، الجزائر، فرنسا عبر البحر، بينما المحلل السياسي الليبي لا بد له من أن يأخذ التطورات السياسية في المغرب العربي غربا ومصر والسودان شرقا، والنيجر وتشاد عبر الصحراء الكبرى، ووسط المتوسط وشرقه أوربيا.


نقطة التوازن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا ومحاسبيا في وضع كهذا سيكون من الصعب احتسابها بالمنهجية الكمية.


لدي رغبة شديدة في الاستطراد لمناقشة هذه القضية من الجانب السياسي، ولكني سأمتنع؛ سأحاول أن اناقش بعض الجوانب الاقتصادية من واقعية مستدلا بالتطور التاريخي الحديث والاستنتاج باتجاهات المستقبل.


ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية، جغرافيا أرضاً قاحلة لبلد ذي موارد محدودة، هذا استراتيجياً مصدر تهديد أمني لا غير للدول المحيطة به نتيجة الفراغ في القوى الاقتصادية والعسكرية. في مرحلة تاريخية شهدت نهايات نفوذ امبراطوري-عصر أوسطي وبدايات نفوذ عصري-حديث مع تحول جذري في انتقال الثروات وتوزيعها عبر الأمم تخبطت الإدارة العامة الليبية في تشكيل علاقاتها الاقتصادية الدولية وقد زاد اكتشاف النفط وبدء تصديره من هذا التخبط الإداري.

تحولت ليبيا بعد استكشاف النفط من بلد مصدر للعمالة للمراكز الاستثمارية حولها إلى بؤرة استثمارية تستجذب هي نفسها العمالة الخارجية. هذا الوضع أثر على هيكلية التكامل الاقتصادي في المنطقة الجغرافية المحيطة بليبيا من ناحية سوق العمالة، التبادل التجاري، التبادل التكنولوجي.


بالمقارنة مع دول الخليج العربي التي تتشابه كثيرا مع معطيات الوضع الليبي يمكن ملاحظة وضوح التوجه الاستراتيجي لمعظم الدول الخليجية في بناء نموذج اقتصادي تكاملي مع محيطها الجغرافي، ففي حين تكفلت الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا بتقديم الإمكانيات التكنولوجية لتطوير صناعة نفطية في المنطقة كان القرار الاستراتيجي فيها بمجال التنمية المحلية يتمثل بتجنب التكامل الاقتصادي مع المنافس التاريخي إيران “الدولة الفارسية” والقفز عليه للتوجه نحو شبه القارة الهندية وملحقاتها شرقا مع التعامل التكميلي المحدود من جهة المشرق العربي سوريا الكبرى ومصر.

التوجه الخليجي لجلب العمالة الآسيوية الذي يتم توصيفه اليوم على أنه إلى حد كبير كتكرار لظاهرة الرق والذي لم يكن ممكنا تفعيله مع المنافس الإيراني أو حتى التركي إلى حد بعيد نتيجة لأبعاد ثقافية، يعتبر أحد الأخطاء الإنسانية التاريخية المشابهة لنقل الرقيق الافريقي إلى أمريكا في بدايات العصر الحديث.


لا يمكن الانكار حاليا أن النهضة العمرانية الكبرى في منطقة الخليج قامت على اكتاف ما يشبه الرقيق وأنظمة الكفيل المخجلة والتي يتم الاستغناء عنها اليوم والتحول لأنظمة أكثر حضارية، كما لا يمكن انكار أن أنفاق المترو في لندن قام بحفرها الرقيق القادم من افريقيا وجنوب الجزيرة العربية؛ لا أظن من ناحية إنسانية أن حقوق التعويض سوف تختفي لهذه الأجيال المظلومة، ولكن من ناحية أخرى فأن البنية التحتية تم تطويرها بشكل لم يكن له أن ينفذ بدون اللجوء إلى هذه السياسات.


في الحالة الليبية لم يكن خيار تجنب القفز على جار معين مطروحا خصوصا مع صعوبة أنظمة المواصلات، المخزن البشري للعمالة الرخيصة المدربة في آسيا لم يكن متاحا للسوق الليبية ولم تكن العمالة الافريقية عبر الصحراء مصدرا للعمالة الماهرة المطلوبة في حركة التنمية الليبية.

ولنكن صريحين فأن جانب من لعنة النفط التي أصابت المجتمع الليبي كما أصابت المجتمعات الخليجية تدريجيا وتفاقمت فيما بعد، أنتجت هيكلا اقتصاديا يتطلب نوعية معينة من ممارسة الرق بعد تجنب أبناء البلد مزاولة بعض الاعمال الجسدية المرهقة، ولا يسجل التاريخ أن ليبيا كدولة قد لجأت في المرحلة المعاصرة إلى ممارسات الرق المستحدثة فيما عدا ما حدث في سنوات الفوضى الأخيرة ضد المهاجرين غير القانونين للأسف الشديد.


وفي خلال السنوات الستون الأخيرة ووفقا للحركة الاقتصادية لم تنجح دول منطقة الشمال الافريقي في محاولاتها لإحداث تكامل اقتصادي بينها حيث لا يزال النموذج التنموي الأساسي لكل منها يقوم على جزر سياسية منعزلة تحتفظ بأنظمة ذات إمكانيات تكنولوجية ضعيفة إلى متوسطة وغير قادرة على المنافسة ضد تكتلات اقتصادية قديمة في أوربا أو ناشئة في الشرق الأقصى.


وفقا لهذا التحليل فأن ليبيا كدولة حديثة الاستقلال توجهت بداية إلى التكامل العمودي مع الشريك الأمريكي أساسا أو الأوربي جزئيا حين تقدم هذا الشريك لتطوير صناعة النفط في البلد بعد اكتشاف الاحتياطي النفطي، هذا التكامل القائم على تواجد سياسي وعسكري في البداية كان بالطبيعة محدودا حيث لم يقدم على الانغماس في نموذج تنموي شامل، بل استمر في أتباع النموذج الامبريالي البريطاني الذي ركز على تطوير عواصم إدارية وأهمل الأطراف؛ كانت التنمية الشاملة تتطلب توسع أفقي في المفهوم التنموي ولم يكن النموذج التكاملي الغربي مناسباً لها مما تتطلب الاستدارة نحو المحيط الجغرافي الملاصق البدائل هنا كانت مصر، السودان، تونس، الجزائر.


لم تكن ليبيا في الخمسينات والستينات حتى بوجود النفط منطقة جاذبة لعوامل عدة. كانت مصر منشغلة إلى حد في المواجهة العسكرية مع العدو الإسرائيلي مما يحتم تجنيد نسبة كبيرة من القوى العاملة وكذلك الموارد الاقتصادية الأخرى، أما بالنسبة لتونس والجزائر فكانت الفرصة مفتوحة أمام فائض القوة العاملة للهجرة إلى أوربا.


وعلى صعيد أوجه التكامل الأخرى فقد كانت الفرص محدودة جدا في نواحي التجارة والاستثمار حيث كانت السوق الليبية هدفا لتصريف السلع الاوربية والآسيوية ذات الجودة العالية، وكانت الحوافز الاستثمارية في أوربا أكبر ربحية من تلك الفرص الضيقة في المنطقة.


بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973 حدث تطور هام على صعيد الحياة الاقتصادية في مصر مما سمح بحدوث نوع من التكامل بين الاقتصاد الليبي والاقتصاد المصري في قطاع العمالة. أدى تسريح العديد من الخدمة العسكرية في مصر إلى حدوث ضغط كبير على التوظيف هناك مما قاد إلى خروج الكثير من العمالة إلى الدول النفطية في الخليج وليبيا. الخلاف السياسي بين ليبيا ومصر منذ منتصف السبعينات قلص إلى حد بعيد من توافد العمالة المصرية على ليبيا كما أوقف اشكال التكامل الاقتصادي الأخرى في التجارة والاستثمار.


من ناحية الغرب لم يطرأ تغيير كبير على تونس أو حتى الجزائر حيث كانت فرص الاستثمار والعمالة محدودة جدا، وقد أصيب العديد من رجال الاعمال الليبيين بالخيبة من الاستثمار في تونس بسبب تعقيد قوانينها الاستثمارية بعد أن حاولوا نقل أعمالهم إليها أثناء التضييق على القطاع الخاص في ليبيا في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. أما العمالة التونسية والتي يشهد لها بالاحترافية والاتقان فأنها لم تجد المجالات المناسبة لها في ليبيا، لذا فأنها تركزت في مجالات محدودة خصوصا في صناعات الأغذية وصناعات الزينة والملابس. وفي حالات خاصة حاولت الدولة الليبية في المقابل انشاء بعض الاستثمارات في تونس أو حتى في الجزائر في قطاعات المال والمصارف.


في الثمانينات والتسعينات حدثت تطورات اقتصادية كبيرة في المنطقة، كان الانفتاح الاقتصادي في مصر قد سهل عملية استجذاب الاستثمارات الخارجية إليها، كما أن اندلاع الصراع في الخليج العربي أدى إلى رجوع أعداد كبيرة من العمالة لبلدهم مما ضاعف معدلات البطالة هناك.

أما من الناحية الغربية فقد بدأت أوربا وخصوصا فرنسا تقفل أبواب الهجرة إليها من دول المغرب العربي، مما فاقم من أزمات البطالة في دول تونس، الجزائر والمغرب كذلك. وبالتزامن مع أزمة هبوط أسعار النفط في 1985 فقد كانت الظروف نظريا تدفع إلى قيام تكتل اقتصادي إقليمي في المنطقة. كان التحرك الأول في هذا الاتجاه هو التكامل الليبي المغربي ومن ثم توج بقيام تكتل اتحاد المغرب العربي.


لم يصادف التجمع المغاربي حظه من النجاح الاقتصادي بالرغم من بعض المنافع الاقتصادية في مجال العمالة والتجارة التي جنتها ليبيا خصوصا في الانفتاح على تونس والمغرب. عوامل الفشل عديدة، ولكن في نفس الوقت عوامل التكتل لا تزال موجودة ويمكن لقيادات سياسية ناضجة أن تعمل لتفعيلها.

الفرص التكاملية بين الدول المغاربية لازالت محدودة جدا نظرا لعوامل تشريعية قانونية وثقافية واقتصادية على الجميع العمل على تفكيكها لتطوير التعاون والتكامل بصورة مخططة.


وصفة وسر النجاح في رأيي تتلخص في ألا تكون ليبيا كدولة منطقة عازلة، بل أن تلعب دور الرابط بين الشرق والغرب مثل الدور الذي تلعبه سويسرا في النظام الاقتصادي الأوربي بربطها الشمال المتقدم صناعيا مع الجنوب الشاعري.

مشاركة الخبر