Skip to main content
"الشحومي": إصلاحات اقتصادية في ليبيا لمصلحة المواطن والتنمية – قراءة نقدية
|

“الشحومي”: إصلاحات اقتصادية في ليبيا لمصلحة المواطن والتنمية – قراءة نقدية

كتب الخبير الاقتصادي “منذر الشحومي” مقالاً

في تصريحاته الأخيرة الداعية إلى رفع الدعم عن السلع و المحروقات وتقليص بند المرتبات العامة، أثار السيد محمد الرعيض – رئيس الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة وعضو مجلس النواب – موجةً من الجدل والاستياء الشعبي. امتدت ردود الفعل الغاضبة إلى الدعوة لمقاطعة منتجات شركته، وذلك نتيجة اللهجة الحادة التي بدت وكأنها تُحمِّل المواطن العادي مسؤولية الأزمة الاقتصادية الخانقة. ورغم كل ذلك الجدل والغضب، فإن هذا المقال لا يدافع عن الرعيض ولا يبرر أسلوب طرحه؛ بل يهدف إلى مناقشة الأفكار الاقتصادية التي طرحها وكيفية عرضها على الرأي العام، دون رفض لجوهر تلك الأفكار.

إن الركون إلى سياسات شعبوية لتسكين الأوجاع الآنية دون علاج جذري لن ينقذ الاقتصاد الوطني، كما أن تأجيل الإصلاحات الضرورية اليوم يعني بالضرورة اتخاذ قرارات أشد قسوة في المستقبل عندما تتفاقم الأزمات. ومع ذلك، لا يمكن إلقاء أعباء فشل السياسات الاقتصادية السابقة على كاهل المواطنين وحدهم؛ فغالبيتهم لم يكونوا طرفًا في منظومات الفساد وسوء الإدارة التي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار.

جديرٌ بالذكر أن لهجة الرعيض في طرحه للإصلاح بدت وكأنها تلوم الناس على أزمةٍ لم يصنعوها، مما عمّق فجوة الثقة بين الشارع وصنّاع القرار. إن الإصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ من أعلى الهرم السياسي والاقتصادي، بحيث تتحمل القيادات مسؤولياتها أولًا وتُضمن عدالة توزيع أعباء الإصلاح وعوائده. فالمواطنون المنهكون من الأزمات المتتالية يستحقون خطابًا رسميًا يحترم مشاعرهم، وإصلاحاتٍ تضع اعتبارات العدالة الاجتماعية وكرامة العيش الكريم في صلب الأولويات.

عبء الدعم الحالي: منطق الإصلاح في مواجهة مخاوف الشارع

لا شك أن نظام الدعم السلعي المعمول به منذ عقود (خاصةً دعم الوقود والكهرباء والمياه) تحول من ميزة اجتماعية إلى عبء اقتصادي يثقل كاهل الدولة. يبلغ سعر البنزين المحلي في ليبيا حوالي 0.15 دينار لليتر فقط (نحو 0.02 دولار أمريكي)، مما يجعله أرخص سعر وقود في العالم. هذه الأسعار الزهيدة وإن بدت في صالح المواطن على المدى القصير، أدت في الواقع إلى انتشار سلوكيات سلبية كالإسراف والتهريب. وفقًا لتقارير دولية، يُقدَّر ما تفقده ليبيا بسبب تهريب الوقود بما يتعدي 5 مليارات دولار سنويًا – أموال طائلة تُهدر ليستفيد منها المهربون بدلًا من المواطن البسيط. الأمر لا يقتصر على الوقود؛ فالكهرباء والمياه أيضًا تقدَّمان بأسعار شبه مجانية، مما شجّع على الإفراط في الاستهلاك وأضعف كفاءة إدارة الموارد. ونتيجةً لذلك تضخمت نفقات الدعم في الموازنة العامة لتصل في حالة الوقود وحده إلى نحو 12.8 مليار دينار ليبي في أول 11 شهرًا من عام 2024 (حوالي 2.7 مليار دولار بالسعر الرسمي) و هذا الرقم لا يشمل تكلفة الدعم المحتسبة من المنبع و نتيجة المقايضة للنفط الخام مقابل محروقات او التسوية من حساب الموسسة الوطنية للنفط قبل التحويل للحساب السيادي لدى مصرف ليبيا المركزي، و الذي يقدر بما لا يقل عن عشر مليارات دولار. هذه المبالغ الهائلة كان يمكن توجيهها لتحسين الخدمات العامة أو تقديم دعم نقدي مباشر للأسر المحتاجة بدل تبديدها في سوق سوداء يقتات عليها المتاجرون بالدعم.

من هذا المنطلق، فإن دعوة الرعيض إلى إعادة النظر في سياسة الدعم تستند إلى منطق اقتصادي قوي: فالدعم الشامل بأسعاره الحالية يفتقر إلى العدالة ويؤدي إلى إهدار الموارد، فعلى عكس المقصود منه، يستفيد الأغنياء وأصحاب الاستهلاك الأعلى من الدعم أكثر من الفقراء، كما أن المواطنين والأجانب ينالون حصةً متساوية منه بلا تفرقة. إضافةً إلى ذلك، السعر المتدني للسلع المدعومة خلق حالة من الاتكال والاستهلاك المفرط بدلاً من الترشيد، وأفرز اقتصادًا موازيًا يقوم على التهريب والفساد. كل هذه التشوهات تنعكس سلبًا على معيشة المواطن بشكل غير مباشر عبر استنزاف خزينة الدولة وتقليص قدرتها على تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية أو رفع المرتبات بشكل مستدام، أي أن المواطن قد يدفع ثمن الدعم الحالي في النهاية من نوعية الحياة المتراجعة والخدمات المتدهورة.

لكن بالمقابل، طريقة طرح هذه الفكرة للجمهور لم تكن موفقة تمامًا. فعلى الرغم من وجاهة مبدأ رفع الدعم العيني واستبداله بدعم نقدي يستهدف المستحقين، شعر كثير من المواطنين بالقلق وربما بالغضب من تصريحات الرعيض. يرجع ذلك إلى عدة أسباب أهمها تحميل المواطن مسولية الاخطاء الاقتصادية و الفساد المالي، كذلك انعدام الثقة في آليات التنفيذ الحكومية: إذ يخشى المواطن أن يؤدي رفع الدعم إلى ارتفاع كبير في الأسعار دون تعويض فعلي أو أن يتبخر الوفر المالي في دهاليز الفساد والإنفاق الرسمي غير الرشيد، وما زاد الطين بلة أن حديث الرعيض ركز على ما ينبغي على المواطن تحمّله من أعباء الإصلاح (كرفع سعر البنزين)، دون تطمينات كافية حول ما ستقوم به الدولة بالمقابل لضمان عدم تضرر الفئات الضعيفة، كما لوحظ أنه تجاهل الإشارة إلى ملف الفساد الحكومي وتضخم المصاريف الرسمية، وهو جانب لا يقل أهمية عن إصلاح الدعم نفسه. فكيف يطالب المواطنين بشد الأحزمة والتخلي عن مكاسب مباشرة اعتادوا عليها، بينما لم يُسمع له صوت قوي في المطالبة بكبح فساد الإنفاق العام أو الحد من البذخ في مصاريف المسؤولين؟ هذا الخلل في التوازن بالطرح أعطى انطباعًا بأن الإصلاح المقترح أحادي الجانب، يستهدف المواطن فقط دون النخبة السياسية والإدارية، مما أجج رفض الشارع للاقتراح رغم منطقيته الاقتصادية.

لجعل طرح إصلاح نظام الدعم أكثر قبولًا وشمولًا، من الضروري تضمين ما يلي:

•   ضمانات واضحة لحماية محدودي الدخل:

ينبغي التأكيد على أن رفع الدعم سيتم تدريجيًا وبالتوازي مع تعويضات نقدية عادلة ومنتظمة تصل مباشرةً إلى مستحقيها، بحيث لا يُترَك المواطن البسيط وحيدًا في مواجهة غلاء الأسعار.

•   مكافحة التهريب والفساد بالتزامن مع الإصلاح:

على السلطات إعلان إجراءات حازمة لمنع شبكات تهريب الوقود ومحاسبة المتورطين في هدر المال العام، لضمان أن الوفر الناتج عن تقليص الدعم سيذهب لتنمية الاقتصاد لا إلى جيوب الفاسدين.

•   ترشيد الإنفاق الحكومي نفسه: 

من المهم أن يشعر المواطن أن الحكومة جادة في إصلاح نفسها أيضًا، عبر خفض المصاريف التسييرية والامتيازات المبالغ فيها للمسؤولين، عندما يرى الناس أن قادتهم يشدّون الأحزمة معهم، سيصبح تقبّلهم للإصلاحات الصعبة أهون نسبيًا.

•   شفافية التواصل والخطاب: كان يجدر بمن يطرح مثل هذه الأفكار أن يستخدم لغة تُراعي مخاوف الناس بدلًا من إلقاء اللوم عليهم لتعويلهم على الدولة، شرحٌ مبسّط يُبيّن كيف أن الإصلاح سيعود بالنفع على المواطن مستقبلًا – مدعومًا بالأرقام وخطة عمل واضحة – كان سيخفف من التوجس الشعبي ويدفع نحو حوار بنّاء بدل الصدام.

تضخم القطاع العام: حقيقة لا خلاف عليها ولكن أين البديل؟

إلى جانب ملف الدعم، تناول طرح الرعيض معضلة تضخم القطاع الحكومي مقابل ضعف مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد، فلا يخفى أن عقودًا من السياسات الاقتصادية الخاطئة حوّلت الوظيفة الحكومية إلى الخيار شبه الوحيد أمام غالبية الشباب الليبي، في ظل محدودية الفرص في القطاع الخاص، ونتيجة التوسع المستمر في التوظيف الحكومي بلا تخطيط، ارتفع عدد موظفي الدولة من نحو 900 ألف موظف في 2010 إلى حوالي 2.3 مليون موظف بنهاية 2021 – أي أن قرابة ثلث سكان ليبيا باتوا يتقاضون رواتب من الخزانة العامة، هذا الرقم الضخم يفوق بكثير قدرة الاقتصاد الحقيقي على استيعاب موظفين منتجين، فتحولت آلاف الوظائف إلى بطالة مقنعة أو أعمال شكلية غير منتجة، ولعل ما يزيد الصورة قتامة أن بند الرواتب والأجور الحكومية يلتهم حاليًا ما يصل إلى 70-75% من الإنفاق العام (73% خلال الربع الأول من 2023 مثلًا)، مما لا يترك سوى حيزٍ محدود جدًا للاستثمار في المشاريع التنموية والخدمات، وفي نفس الفترة (الربع الأول 2023) بلغت فاتورة المرتبات نحو 13.1 مليار دينار من أصل 18 مليار إنفاق عام، بينما لم يتجاوز الإنفاق التطويري 750 مليون دينار فقط، هذه فجوة هائلة بين ما يُصرف على الاستهلاك الحالي (رواتب ودعم) وبين ما يُستثمر للمستقبل، ما يعني استنزافًا لمقدرات البلد دون بناء حقيقي لقدراته الإنتاجية.

من هذا المنظور، كان تركيز الرعيض على ضرورة تحجيم القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص في محله من ناحية المبدأ، إذ لا يمكن لاقتصاد أن ينمو بشكل صحي حين تكون الحكومة هي رب العمل الأكبر والمموّل الأبرز للنشاط الاقتصادي. لقد أشار الرعيض إلى أن الشعب اعتاد الاعتماد على الدولة، وإلى أن سياسة تعليمية عقودية دفعت الجميع إلى التعليم الجامعي النظري على حساب التعليم التقني والفني، لتنتهي الرحلة بطوابير الخريجين الساعين إلى وظيفة حكومية. هذه الملاحظات صحيحة وتعكس واقعًا مؤلمًا: الاعتماد الكلي على الدولة خلق ثقافة انتظار الوظيفة الحكومية بدلًا من روح المبادرة في الأعمال الخاصة أو الحِرفية، كما أدى إلى تضخم بيروقراطي يثقل الأداء الحكومي نفسه.

بيد أن الأسلوب الذي عُرضت به هذه الحقائق أثار التساؤلات حول “ما الحل البديل” فعليًا، فالمواطن يتفق ربما أن تضخم الجهاز الحكومي بلغ حدًا مرضيًا، لكنه يتساءل: أين الفرص الأخرى إذا انكمش التوظيف الحكومي؟ كان حريًا بالرعيض أن يستفيض في شرح كيفية تنشيط القطاع الخاص لامتصاص العمالة الفائضة واستيعاب الشباب الداخلين إلى سوق العمل سنويًا، لقد ذكر بالفعل أن القطاع الخاص الليبي “يعمل بمدخراته دون دعم من المصارف” في إشارة إلى قصور التمويل المصرفي للمشاريع الخاصة. ولكن لم نسمع منه مثلاً عن خطط عملية لمعالجة هذه المشكلة البنيوية، كإصلاح القطاع المصرفي أو تقديم حوافز للاستثمار المحلي، كذلك لم يربط بشكل صريح بين تقليص وظائف الدولة وبين محاربة الفساد في التوظيف الحكومي ذاته؛ فجزء من تضخم القطاع العام سببه توظيف زبائني أو أسماء وهمية بهدف شراء الولاءات السياسية والاجتماعية، الإصلاح الحقيقي يقتضي معالجة هذا الخلل عبر مراجعة كشوف المرتبات وتنقية الجهاز الإداري من الفساد والمحسوبية، وليس فقط وقف التوظيف الجديد.

إن نجاح أي عملية لإعادة هيكلة القطاع العام مرهون بتوافر بديل اقتصادي فعّال. هنا أيضًا يظهر قصور خطاب الرعيض: فقد انتقد الواقع القائم من دون أن يرفقه برؤية شاملة لكيفية الانتقال إلى وضع أفضل. على سبيل المثال.

يمكن أن تشمل الرؤية المتكاملة:
• إطلاق برامج لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة: بحيث توفر الدولة قروضًا ميسّرة وتسهيلات ضريبية لرواد الأعمال، مما يخلق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص تستوعب الباحثين عن العمل.

•   شراكة حقيقية مع القطاع الخاص في المشاريع الكبرى: عبر تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي في مجالات كالطاقة المتجددة، السياحة، الزراعة والصناعة التحويلية، لتخفيف الاعتماد على القطاع النفطي والوظائف الحكومية.

•   إصلاح نظام التعليم والتدريب المهني: لملاءمة مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل. فبدلًا من تخريج آلاف الجامعيين العاطلين، يجدر توجيه نسبة أكبر من الشباب نحو التعليم التقني وحِرف يحتاجها الاقتصاد الليبي، مع توفير منح وحوافز للالتحاق بهذه المسارات.

•   معالجة تركة الفساد في التوظيف الحكومي: عبر إنشاء قاعدة بيانات شفافة للموظفين الحكوميين وإزالة الازدواجية والوظائف الوهمية، وضمان أن من يبقى في الوظيفة العامة يؤدي خدمة حقيقية للمواطنين، هذا ليس فقط لتحقيق عدالة في ضبط النفقات، بل أيضًا لإقناع العامة بأن تقليص القطاع العام لن يُستخدم كسلاح ضد صغار الموظفين وحدهم فيما يبقى “الكبار” في مناصبهم بلا محاسبة.

لو أن مثل هذه العناصر طُرحت بوضوح ضمن حديث الرعيض، لربما اختلف رد فعل الشارع، فالمواطن يحتاج أن يرى الطريق أمامه: كيف سينتقل من اقتصاد تهيمن عليه الدولة إلى آخر متنوع يقوده القطاع الخاص. الحديث عن المشكلة دون طمأنة الناس إلى حلٍ واقعي قابل للتنفيذ جعل الدعوة للإصلاح تبدو مجرد مطالبة بالتضحية من جانب واحد، أما الإصلاح المدروس الشامل فبإمكانه أن يقنع الناس بأنه يصنع مستقبلاً أفضل للجميع وليس مجرد حرمان لهم من مكاسب حالية.

الاستقرار النقدي وتعزيز الثقة: أهداف مشروعة تصطدم بواقع الثقة المفقودة

تطرّق طرح الرعيض أيضًا إلى أهمية تحقيق الاستقرار النقدي ومعالجة التشوهات المالية، لاسيما تلك الناتجة عن دعم السلع وفروق سعر الصرف. وقد أشار بحق إلى ما نتج عن حقبة ازدواج سعر صرف الدينار (الرسمي والموازي) من فساد كبير، حيث استغل البعض الحصول على الدولار بالسعر الرسمي المدعوم لتحقيق أرباح خيالية عند بيع السلع بالسعر الموازي، هذه الممارسات أضرّت بالاقتصاد وأثرت سلبًا على قيمة العملة وثقة المواطنين، صحيح أن مصرف ليبيا المركزي وحّد سعر الصرف مطلع 2021 عند حوالي 4.48 دينار للدولار، لكن الضغوط عاودت الظهور مؤخرًا مما اضطره إلى خفض قيمة الدينار رسميًا بنسبة 13% تقريبًا (إلى 5.56 دينار للدولار) خلال 2023. وبقي الفارق قائمًا بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية (حيث تجاوز الدولار 7 دنانير أحيانًا)، ما يدل على استمرار عدم الثقة ووجود اختلالات تتطلب المعالجة.

من زاوية اقتصادية بحتة، إن طرح الرعيض الداعي إلى ضبط الإنفاق العام وترشيد الدعم يهدف ضمنيًا إلى تخفيف الضغط على الاحتياطيات الأجنبية وحماية الدينار من المزيد من التدهور. فحين تنخفض حاجة الحكومة إلى شراء العملة الصعبة لتمويل واردات مدعومة أو كتلة رواتب ضخمة، يصبح احتياطي البنك المركزي في وضع أكثر أمانًا وقدرة على دعم سعر الصرف، حاليًا تتمتع ليبيا باحتياطي نقدي قوي يقارب 82 مليار دولار بنهاية 2023 بفضل عائدات النفط المرتفعة نسبيًا، وهو رقم يكفي لتغطية الواردات لعدة سنوات، غير أن هذا الرصيد يمكن أن يتآكل سريعًا إذا استمرت أنماط الإنفاق الحالية دون إصلاح، لا سيما عند أي انخفاض في أسعار النفط عالميًا أو اضطراب في الإنتاج المحلي بسبب تطورات سياسية، من هنا فإن الإصلاحات التي ينادي بها الرعيض تشكل وقاية مبكرة للاقتصاد: تقليص نزيف الموارد عبر الدعم العشوائي والإنفاق غير المنتج سيعزّز استقرار المؤشرات الكلية (عجز مالي أقل، ودين عام تحت السيطرة) مما يمنح مصرف ليبيا المركزي مجالًا أكبر للمحافظة على قيمة الدينار وربما تعزيزها مستقبلًا، وبالتالي يُكبح التضخم وتُصان القوة الشرائية للمواطن الليبي، خاصة أن معدل التضخم السنوي تراجع إلى نحو 2-3% في 2023 ومن المتوقع بقاءه في نطاق منخفض إذا استمر الانضباط المالي.

رغم ذلك، يبقى التحدي الأكبر سياسيًا واجتماعيًا أكثر منه تقنيًا. فالمواطن العادي قد لا يُعير اهتمامًا كبيرًا لتقارير وكالات التصنيف الائتماني أو حتى لمعدل التضخم ما دام يشعر بأن معيشته اليومية مهددة؛ إن تعزيز الثقة هنا لا يتعلق فقط بأرقام الاقتصاد الكلي، بل بثقة الناس في أن إصلاحات التقشف المقترحة ستنعكس إيجابًا عليهم فعليًا ولن يتم الالتفاف عليها أو استغلالها ضدهم. كثيرون يتوجسون من أن رفع الدعم أو تخفيض فاتورة الرواتب سيُنفَّذ في النهاية على حساب المواطن البسيط، بينما يستمر الهدر في مستويات الحكم العليا. وللأسف هناك سوابق تعزّز هذا الشك: إذ جرى الحديث مرارًا عن إصلاحات ومبادرات اقتصاديّة في الماضي، لكنها أخفقت إما لسوء تنفيذها أو لغياب الإرادة السياسية الحقيقية، فتكرس لدى الشارع اعتقادٌ أن الوعود الرسمية شيء والواقع شيء آخر تمامًا.

من أجل تجسير فجوة الثقة هذه، كان ينبغي على الطرح الإصلاحي أن يتضمن إجراءات واضحة لبناء المصداقية. فعلى سبيل المثال، إعلان حزمة شفافية تتعهد بها الحكومة أمام المواطنين، تشمل نشر التقارير الدورية عن حجم الوفر المتحقق من الإصلاحات وكيفية إنفاقه (سواء في دعم مستهدف أو مشاريع تنموية). كذلك، ربما كان من المجدي لو أشار الرعيض إلى ضرورة توحيد الميزانية العامة بين حكومتَي البلاد المتنافستين وتحسين إدارة الموارد عبر سلطة مالية موحّدة، فجزء كبير من التشوهات الاقتصادية في ليبيا يرجع لانقسام المؤسسات وضعف الرقابة. إن طمأنة المواطنين بأن إصلاح الدعم وضبط الإنفاق لن يكونا مجرد إملاءات مالية بل جزءًا من رؤية أشمل لبناء اقتصاد أقوى وأكثر تنوعًا كان سيجعل رسالته أكثر إقناعًا. فلو وُضع الإصلاح المالي في إطار خطة تنموية متكاملة – تتضمن مثلًا تحسين مناخ الاستثمار، مكافحة الفساد الإداري، والاهتمام بقطاعات إنتاجية جديدة – لأمكن تغيير نظرة الناس من إصلاح يُخشى منه إلى إصلاح يُرجى منه.

الإصلاح في صالح الوطن لا الأفراد

في المحصلة، إن جوهر الأفكار التي طرحها محمد الرعيض يعكس تفكيرًا اقتصاديًا علميًا يستهدف معالجة اختلالات هيكلية أضرّت بمعيشة المواطن الليبي، إلا أن طريقة تسويق هذه الأفكار للجمهور هي التي أثارت النفور والمقاومة. لقد ركز خطاب الرعيض على الإجراءات المؤلمة المطلوبة (رفع الدعم، ضبط الرواتب) دون إيلاء نفس القدر من الاهتمام لشرح الضمانات والمكاسب المستقبلية أو للإشارة إلى تضحية الطبقة الحاكمة بنصيبها من الإصلاح، وهنا يكمن الدرس الأوسع: لا يكفي أن تكون السياسات صحيحة نظريًا، بل ينبغي أن تُطرَح عمليًا بطريقة عادلة وشاملة تأخذ بعين الاعتبار مخاوف الناس ومصالحهم، فالإصلاحات الجريئة يمكن أن تنجح وتؤتي ثمارها كما تُظهر تجارب دولية عدة، لكن شرط ذلك أن تحظى بثقة المواطنين ودعمهم القائم على اقتناع وإشراك في المنافع.

ليس الهدف من هذا النقاش الدفاع عن شخص الرعيض أو أي مسؤول بعينه، بل الانتصار لمنهج التفكير الموضوعي في مواجهة التحديات. إن رفض الأفكار فقط بسبب كراهية قائليها هو ضرب من إطلاق النار على أقدامنا. بدلاً من ذلك، المطلوب هو تمحيص كل طرحٍ اقتصادي بعقلانية: أخذ ما فيه من نفع وتصحيح ما يعتريه من نقص، وصولًا إلى معالجات واقعية تخدم مصلحة الوطن والمواطن، إذا نجحنا في تجاوز الشخصنة وتسييس الملفات الاقتصادية، سنجد أن كثيرًا من الوصفات العلاجية – وإن كانت مُرّة المذاق – هي ما يحتاجه الاقتصاد الليبي لينتعش ويحقق تنمية حقيقية مستدامة يشعر بها الجميع.

مشاركة الخبر