كتب: الخبير الاقتصادي ومؤسس سوق المال الليبي “سليمان الشحومي”
يبدو أن تشابه الأسماء بين ليبيا ولبنان قد أوجد مقاربة أخرى اقتصادية تكاد تتطابق بين البلدين، لبنان كاقتصاد صمم ليلبي طموحات اقتصاد النخب وليس اقتصاد يلبي طموحات الشعب، اقتصاد حر كما يحلم به الكثيرون وعملة الدولار تطغى حتى على الليرة العملة الوطنية بلبنان، ومنظومة البنوك المحرك الأساسي للاقتصاد يملكها ويديرها مجموعة محدودة من أصحاب المصالح والنفوذ السياسي والاقتصادي.
الاقتصاد اللبناني اقتصاد مهلهل بشكل كبير وعلى شفير الانهيار، فهو من أعلى الاقتصاديات مديونية بالعالم ولديه عجز تجاري وعجز موازنة مستمر ومعدل بطالة عالي وانكشاف كبير على الخارج، ومع ذلك تقوم البنوك بتقديم أعلى معدل عائد على الودائع الدولارية وصلت إلى أكثر من 13% سنويا، وبالتالي سحب البساط من أي عمليات استثمار أو إنتاج بالاقتصاد المحلي، فالمستثمرين يفضلون إيداع الأموال لدى البنوك بدلا من استثمارها مباشرة ولتذهب لتغطية العجز بالاحتياطيات لمقابلة عمليات الاستيراد والتي ساهمت بقوة في ترسيخ الاقتصاد الاستهلاكي وغير المنتج والذي يفتقد الشفافية، بالرغم من وجود منظومة مصرفية متطورة قادرة على الإقراض وتمويل المشروعات موجه في أغلبها لخدمة فئة محددة.
هذا الاقتصاد اللبناني يشكل دخل واحد من عشرة من اللبنانيين ما يعادل نصف اللبنانيين، مما يؤكد انعدام التوزيع العادل للدخل بلبنان، النموذج الذي رسمه وطوره أصحاب المصالح وأصحاب الثروات بلبنان اعتمد على التحرر الكامل والفساد الشامل بنفس الوقت وفصلوا بين النظام الاقتصادي الذي تركوه يعاني ويعكس الواقع المؤلم والنظام النقدي المزدهر والذي سخر بقوة لخدمة أصحاب الأموال العابرة للحدود، فالبنك المركزي ومجموعة البنوك العاملة لم تتعاطى منذ سنوات بجدية مع الأزمات الاقتصادية ومشكلاته المزمنة وركزت في الإطار النقدي وتدوير الدولار وعملياته ولدرجة أن بعض البنوك اللبنانية تم منعها من التعامل بالدولار من قبل الولايات المتحدة مما أدى إلى إفلاسها وأقفالها. والمربك أكثر الآن في الأزمة الاقتصادية الخانقة انهيار قدرة البنوك اللبنانية على تلبية طلب أصحاب الودائع الدولارية بالحصول على دولاراتهم كما يشاؤون في السابق.
وهنا يتبادر سؤال .. هل يمكن معالجة الوضع الاقتصادي بلبنان بمعزل عن الوضع السياسي المحتقن من انعدام الشفافية بسبب استشراء الطبقة السياسية وفسادها وسيطرتها على أدوات النشاط الاقتصادي الهامة وخصوصا البنوك وشركات الاستثمار وغيرها ؟
وإذا أمعنا النظر في الأزمة الليبية الحالية ودون الخوض في التفاصيل نجد أننا نكاد نتشابه مع الحالة اللبنانية في سرعة الاندفاع والانكشاف بسبب سيطرة الدولار على الاقتصاد سيطرة تامة، وانفصال الوضع النقدي عن الوضع الاقتصادي والذي أصبح مسيطرا برغم هشاشته بفعل الانقسام السياسي والذي قاد لانقسام إدارة البنك المركزي وما لحق به من تصرفات أضرت بسلامة النظام النقدي الليبي، فوقف منظومة المقاصة عن البنوك التي وقعت تحت سيطرة البنك المركزي بالبيضاء أدى إلى تناقص أرصدتها لدي البنك المركزي طرابلس مما يحد من قدرتها على مجابهة طلبات الحصول على الدولار الموجود فقط لدى المركزي طرابلس، وطبعا ذلك خطير ويهدد بحصر عمليات الصرف الأجنبي على بعض البنوك دون غيرها.
وبنفس المنوال استفحلت عمليات طباعة العملة من الطرفين ودون تنظيم أو توافق واستخدمها البنك المركزي البيضاء لتمويل عمليات الحكومة المؤقتة واستخدمها البنك المركزي طرابلس لمعالجة أزمة السيولة، وأخيرا ارتفاع مخاطر تقلص عمليات تصدير النفط وتوقفه وبالتالي تقلص الإيرادات للاقتصاد الليبي مما سينعكس فورا على سعر الدولار المحرك الأساسي للاقتصاد النقدي.
صحيح أنه لا توجد عدالة في توزيع دخل النفط وهذه أكبر مشكلة وعمقتها إيقاف المقاصة بين الشرق والغرب وطباعة العملة المتفاقمة، ولكن إيقاف تصدير النفط سوف تكون عواقبه أكثر سلبية على المواطن وما سيترتب عليه من تدهور حقيقي في احتياطيات البنك المركزي، فقدرته على الاستدامة محدودة بسبب عدم وجود مصادر أخرى للدولار.
في تقديري لم تعد السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، بل أصبح الاقتصاد هو الإطار الذي تعمل فيه السياسة، وبالتالي فإننا في حاجة إلى اتفاق على نموذج اقتصادي يعمل بعدالة ويصنع من خلاله الاستقرار السياسي والاجتماعي.