Skip to main content
"الشحومي" يكتب مقال بعنوان: حيرةً المصرف المركزي الليبي
|

“الشحومي” يكتب مقال بعنوان: حيرةً المصرف المركزي الليبي

كتب: أستاذ التمويل والاستثمار ومؤسس سوق المال الليبي “د. سليمان سالم الشحومي”مقالاً

المصرف المركزي الليبي، المؤسسة العريقة والرصينة في هيكل الاقتصاد الليبي، يدير المسألة النقدية بالبلاد في وضع دقيق وغاية في الارتباك داخليا وخارجيا حتي بعد تلبية المطلب الأساسي بتوحيد إدارته ومعالجة شرخ الانقسام الذي استمر لفترة ليست بالقصيرة، وبرغم التوحيد الإداري إلا أن مسألة التوحيد النقدي والمصرفي وادماج ما ترتب علي الانقسام من دين عام وخلق تسهيلات كمية نقدية لازالت تراوح دون خطوات ملموسة تنعكس في الحسابات الرئيسية للمصرف المركزي وتقاريره الدورية .

المصرف المركزي كالعادة وجد نفسه برغم توحيده الشكلي أمام وجود فعلي لحكومتين لديهما ترتيبات و متطلبات إنفاق حكومي تيسيري واستثماري لكل منهما دون إطار عام في شكل ميزانية واحدة يمكن أن تضبط الانفاق العام وتعزز من الرقابة وتضبط اوضاع المالية العامة للدولة الليبية وتساهم في الحد من اتساع حجم النقود بالاقتصاد بما لا يتناسب و القدرة الاستيعابية للاقتصاد الليبي والذي تسبب فيها الانفلات في الإنفاق في غياب الرقابة والموازنة المنظمة وبما يعزز من قدرة المصرف المركزي علي الدفاع عن قيمة العملة الوطنية وتسيطر على التضخم بشكل منظم وعبر آلياته المعروفة .

المعروف أن المصرف المركزي قدم تسهيلات لكل من الحكومتين في غياب اطار موحد أو حتي إطار لكل حكومة على حدي وله مبرراته ولكنه لم يفرض معالجة شاملة للانفلات التمويلي الحكومي برغم دوره المالي الذي قام به و لازال يقوم به، فحتي اجتماعات إدارة الانفاق العام التي كانت برعاية أمريكية ودولية لم تنتج اي شي واقعي لضبط الأوضاع المالية والنقدية المرتبكة بليبيا وكان الهم الأساسي هو ادارة النقد الأجنبي وتعزيز الشفافية حول عملياته على الأغراض المختلفة، ولكنها ظلت بعيدة المنال لتنظيم وإدارة إيرادات مبيعات النفط والغاز وانعدمت شفافيتها وضاعت خيوط إدارة عمليات تحصيل الإيرادات بين المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف الليبي الخارجي ومصرف ليبيا المركزي.

المطالبة بتوحيد الميزانية وإقرار ميزانية موحدة مقسمة بين الحكومتين برغم أن الوقت قد تاخر كثيرا في اقرارها وحتي الالتزام بها كون أن المعضلة ليست فقط في ضبط الانفاق فقط بل في ضبط وانسيابية وشفافية الإيرادات حتى وصولها للمصرف المركزي .

في تقديري أن إقرار ميزانية شكلية قد تساعد المصرف المركزي في ضبط الانفاق العام وتساعده على تحديد مدي قدرته علي الاستجابة في ظل تمدد عرض النقود وتوسعه دون وجود أدوات نقدية قادرة على تعقيم السيولة أو حتي التدخل لكبح التضخم الذي تسبب فيه الانفاق المفرط والاستيراد الواسع لكل شي ومع ذلك لن تكون كافية في ظل رغبة الحكومتين المتزايد نحو الانفاق بدون قيود، فالوضع ملائم جدا للجميع، الضغط على المصرف المركزي وهو يدبر راسه و يحلها من عنده، يوفر سيولة نقدية أو يقيد اموال الكترونية .

الدفع بأن علي المصرف المركزي أن يقلص من عرض النقود قد يكون غير واقعي وغير فعال في ظل حالة الاشتباك والارتباك المالي والنقدي وتعطل ادوات إدارة السياسة النقدية بفعالية وعدم التنسيق مع الحكومات لتطوير آليات السياسة التجارية وسبل كبح جماح الاستيراد المفرط بليبيا وعدم استخدام أدوات السياسة المالية وتوجيه سياسات استثمارية لتحفيز الطلب الفعال الاستثماري والذي يقود إلى استيعاب فائض عرض النقود بدلا من تركزه في الضغط بالطلب على العملة الأجنبية بشكل كبير وتحفز الطلب الفعال الاستثماري التنموي وليس الانفاق الاستهلاكي.

المعضلة أن المصرف المركزي يبدي دائما استعداده لتمويل الانفاق الحكومي المنفلت للحكومتين بمختلف الصور والأشكال ودون أي إطار مرسوم أو متفق عليه بشكل طوعي أو رسمي مناسب احياناً أخرى، ويلجأ في كل مرة إلى استخدام الأداة المتاحة له عبر التمويل بالعجز مما يسهم في الضغط علي الاحتياطات من النقد الأجنبي، في غياب ادوات مصاحبة ومساندة أخرى ضرورية تعيد الاستقرار لعرض النقود وتقوي من قدرة المصرف المركزي في الدفاع عن قيمة العملة المحلية في ظل استنفار السوق الموازي والذي يتعامل مع أدوات المصرف المركزي في عرض النقد الأجنبي بمقدرة عالية جدا في المضاربة وإدارة سوق النقد بمعزل عن المصرف المركزي صاحب اليد الطولي المفترضة، ولكنها يد مقيدة و محدودة القدرة والتي يفترض أن يعول عليها أن تفرض استقرار اقتصادي ونقدي كانت ولازالت دائما علي رأس أولويات مهام المصرف المركزي.

القبول بأنصاف الحلول امر لا يمكن أن يعيد التوازن ولا يمكن أن يبني اقتصاد، فالدفع بفرض ضريبة جديدة على مبيعات النقد الأجنبي لا يقلص عرض النقود ولكن يوفر تمويلا إضافيا للحكومات القائمة وفي أحسن الأحوال يستخدم لسد عجز التمويل الحكومي والذي سيترتب عليه زيادة عرض النقود بسبب زيادة خلقها وهو الوضع الأنسب للحكومات المتنازعة على كل شي ويفتح مزيدا من شهية المضاربين بالدولار باعتباره سلعة ويشجعهم لتحقيق أقصى درجات الاستفادة من هذا الارتباك الاقتصادي والسياسي المتحرك علي صفيح ساخن يعمق من تردي الوضع المالي للدولة الليبية ويجعل المصرف المركزي بين المطرقة و السندان يفقد فيها قدرته شيئا فشيئا علي تحقيق الاستدامة وإدارة السياسة النقدية بفعالية والمساهمة في تحقيق استقرار الاقتصاد .

مشاركة الخبر