كتب الخبير الاقتصادي “علي الصلح”.
أصبحت دراسة إدارة الدَين العام ترتكز على الانتقال من مفهوم الاستدامة المالية اإى مفهوم الاستدامة الاقتصادية، حيث جاءت في إطار أبراز كيفية وضع هدف تخفيض الدَين العام ضمن الأهداف الإنمائية للألفية الجديدة، وذلك من خلال تطبيق أهم المبادئ التوجيهية التي تضمنها الدليل لإدارة الدَين العام، مثل تخفيض تكلفة الاستدانة، تحقيق التوازن في هيكل آجال الدَين، تطوير سوق ثانوية لتداول الأوراق المالية الحكومية، فضلاً عن الإلتزام بتطبيق مجموعة من الشروط من بينها أن يكون الدَين العام أقل من (60%) من حجم الناتج المحلي الإجمالي مع وجود نسبة العجز في الموازنة العامة في حدود (3%) أو أقل، وقد نتوصل إلى خلاصة مفادها، إن محاولة وضع نسبة ثابتة غير مرنة للحد الآمن للدَين العام المحلي سواء من حيث المكان أو الزمان أمراً غير صحيح اقتصادياً، إذ تختلف تلك النسبة لنفس الدولة من مدة إلى أخرى، فقد أوصت العديد من الدراسات بأن يجب أن تكون هناك مرونة وسماح لتلك النسبة بالتغير لتتوافق مع الظروف الاقتصادية المتغيرة سواء صعوداً أو هبوطاً، مماسبق نستطيع القول: بأن إدارة الدَين العام لابد أن لا تكتفي بالاستناد إلى مفهوم الاستدامة المالية فحسب، بل أنه يجب الاعتماد على مفهوم الاستدامة الاقتصادية التي تحقق الاستقرار الديناميكي للاقتصاد.
وفي مجال المالية العامة فإن استخدام مفهوم الاستدامة بدأ من منتصف الثمانينات من القرن الماضي في كثير من البحوث التجريبية، التي أهتمت بقياس وتحديد مؤشرات الاستدامة في السياسة المالية لكثير من الدول المتقدمة، إذ أصبحت استدامة المالية العامة، من أكثر المواضيع جدلاً لأنها تعبر عن التحديات المستقبلية التي يمكن أن تواجهها المالية العامة للدول، نتيجة لتصاعد مستويات العجز والدَين الناشئ عن الإفراط في الإنفاق العام، الأمرالذي يعني تفاقم العبء المالي الذي يمكن أن تتحمله الأجيال القادمة بشكل يحد من مستويات الرفاهية لديها نتيجة لتحمل أعباء قرارات لم يشاركوا في إتخاذها.
كما يتفق هذا مع ما تبناه صندوق النقد الدولي، إذ أوضح إن مفهوم الاستدامة المالية هو (الوضع الذي يستطيع المقترض أن يستمر في خدمة ديونه دون الحاجة إلى إحداث تغيير جوهري في النفقات والإيرادات العامة مستقبلاً )، وبمعنى آخر أن الإستدامة المالية تقتضي عدم تراكم عجز الموازنة العامة حتى لاتضطر الدولة إلى إعادة هيكلية وترتيب أولويات الانفاق وآليات تمويل العجز في المستقبل، الا إن الاقتصاد الليبي يعاني كثيراً من اختلالات اقتصادية مختلفة، وعلى رأسها السياسات النقدية والمالية التوسعية التي قد تؤدي إلى زيادة حجم النقود والتوسع في حجم الدين العام، ومن ثم سينعكس ذلك سلباً على مجمل المتغيرات الاقتصادية الكلية ويضعف عمل السياسة النقدية.
كما يعاني الاقتصاد الليبي كغيره من الدول النامية من مشكلة زيادة النفقات العامة بصورة غير مدروسة بحيث أدت إلى تزايد نسب عجز الموازنة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى اكثر من 3% وذلك منذ عام 2014 وأخذ في التزايد إلى أن وصل أقصاه عام 2016 بنسبه تقدر ب 91.53%، بينما تجاوز الدين المحلي حدوده الآمنه عند 295% كنسبه من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 مما أثر سلباً على وضع الاستدامة المالية، وذلك يُعد مخالف للمشروطية الخاصة بنموذج تحقيق الاستدامة.
وعلى الرغم من إدعاء بأن هناك تنسيق بين السلطتين النقدية والمالية إلا إن دور الحكومة الليبية ممثلة بوزارة المالية ضعيف للغاية في التنسيق حول إدارة العجز في الموازنة العامة والدَين العام، فالدَين العام هو شأن حكومي وإن مصرف ليبيا المركزي يستحوذ على جزء كبير منه، ولذلك يمكن تقديم نموذج إصلاحي في ضوء الاستدامة الاقتصادية في ليبيا حيث أن عجز / فائض الموازنة العامة في ليبيا يشكل وسيلة لإصلاح القطاع المالي من خلال تعزيز هيكلته، لأن وجود حالة من عدم التوازن الداخلي من شأنه أن يوفر مصادر تمويل إضافية, وبالتالي يعمل كمصدر للإستقرار الاقتصادي من خلال دعم النمو, وهذا يتطلب دعماً و تعاوناً مشتركاً بين القطاعين العام والخاص لضمان توحيد الجهود وتوجيهها نحو تعزيز الاستدامة المالية.
ولأجل التطلع إلى نظرة مستقبلية لتحقيق الاستدامة المالية كهدف اقتصادي في ليبيا، ضرورة اللجوء إلى الدَين العام الداخلي وذلك من خلال بناء استراتيجية لإقامة سوق للسندات الحكومية، وهذا يزيد من قدرة الحكومة على تمويل دَينها من خلال الأسواق المالية، وخاصة إذا كانت تتمتع بسهولة الوصول إليها والاعتماد عليها كسوق كفوء ومتطور، وبالتالي يمكن أن يكون سوق الدَين وسيلة لإصلاح القطاع المالي من خلال تعزيز هيكلته، وهذا من شأنه أن يوفر مصادر تمويل إضافية للحكومة، وبالتالي يعمل كمصدر للاستقرار الاقتصادي من خلال دعم النمو عن طريق تعاون القطاعين العام والخاص وتوجيهها نحو تحسين الاستدامة المالية.