كتب المستشار “مصطفى المانع”: استراتيجية أوروبا “الاتحاد للاستعداد” وتداعياتها على ليبيا.
في ظل تسارع الأزمات الدولية وتعاظم التحديات الاقتصادية والمناخية والجيوسياسية، أعلنت المفوضية الأوروبية قبل أيام عن “استراتيجية الاتحاد للاستعداد”، وهي خطة طوارئ شاملة تهدف إلى تعزيز قدرة أوروبا على التنبؤ بالأزمات والتعامل معها بفعالية.
تدعو الاستراتيجية المواطنين الأوروبيين إلى الاحتفاظ بمخزون من الإمدادات الأساسية يكفي لمدة 72 ساعة، بما في ذلك الطعام، الماء، المصباح اليدوي، شاحن محمول، راديو، نقود، وأدوية ، كما تشجع الأسر على وضع خطط طوارئ منزلية وتخزين الإمدادات اللازمة.
هذا الإعلان ليس مجرد إجراءات تنظيمية روتينية، بل هو استجابة حتمية لواقع عالمي يزداد اضطرابًا، حيث باتت المخاطر الوجودية تهدد الاستقرار الأوروبي والعالمي على حد سواء.
لماذا الآن؟ دوافع ملحة وراء خطة الطوارئ الأوروبية
- تصاعد المخاطر الجيوسياسية
في السنوات الأخيرة، شهد العالم حروبًا إقليمية، توترات متزايدة بين القوى العظمى، واضطرابات أمنية تهدد الاستقرار العالمي.
فالحرب في أوكرانيا، التي أدت إلى أزمة طاقة عالمية، كشفت عن هشاشة الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة التقليدية.
والتوترات المتزايدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أثرت بشكل مباشر على أمن أوروبا، لا سيما من خلال الهجرة غير النظامية، الإرهاب، والاضطرابات الاقتصادية.
وتزايد التهديدات السيبرانية والهجمات الإلكترونية، يمكن أن تشل البنية التحتية الحيوية في أوروبا. - كوارث مناخية متزايدة تهدد الأمن القومي الأوروبي
اذ لم يعد التغير المناخي مجرد قضية بيئية، بل تحول إلى عامل رئيسي يؤثر على الأمن القومي والاقتصاد العالمي.
فارتفاع وتيرة الفيضانات، حرائق الغابات، وموجات الجفاف يهدد البنية التحتية الأساسية.
والضغط على الموارد الطبيعية مثل المياه والطاقة، يزيد من التوترات الإقليمية والهجرة القسرية.
والتغيرات المناخية على دول البحر المتوسط بما فيها ليبيا أصبحت أكثر أثراً، حيث شهدت البلاد فيضانات مدمرة في المدينة الجميلة درنة عام 2023، وهو ما يستوجب تعزيز التعاون مع أوروبا لمواجهة المخاطر المناخية. - تهديدات اقتصادية عالمية وتحديات في سلاسل الإمداد.
فارتفاع معدلات التضخم وأسعار الفائدة وقرارات ترامب الاخيره بشأن رفع الضرائب على منتجات دول من أهمها دول أوروبا، يزيد الضغوط على الاقتصادات الأوروبية والدول الشريكة.
واضطرابات سلاسل التوريد العالمية بسبب الحروب والنزاعات التجارية، يستدعي بناء مخزون استراتيجي أوروبي للموارد الأساسية.
مع تزايد احتمالات حدوث أزمات مالية عالمية بسبب هشاشة الأنظمة المصرفية والديون السيادية.
عناصر “استراتيجية الاتحاد للاستعداد”
- تعزيز قدرة الاستجابة السريعة للطوارئ:
بإنشاء مخزون استراتيجي أوروبي للطوارئ يشمل إمدادات غذائية، طبية، وطاقة لمواجهة الأزمات المفاجئة.
وتطوير فرق تدخل سريع يمكنها الانتشار خلال 24 ساعة في مناطق الكوارث. - تحسين أمن الطاقة الأوروبي:
بتوسيع استثمارات الطاقة المتجددة لتقليل الاعتماد على النفط والغاز المستورد.
وإنشاء شبكة احتياطي غاز مشترك بين دول الاتحاد لضمان الاستقرار خلال الأزمات. - حماية سلاسل التوريد الأوروبية:
بتنويع مصادر الاستيراد وتقليل الاعتماد على الموردين غير المستقرين سياسيًا.
وتعزيز الإنتاج المحلي للمواد الأساسية. - رفع مستوى التعاون مع الدول المجاورة، خاصة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط:
بزيادة المساعدات الإنسانية والاقتصادية للدول الشريكة، لمساعدتها في مواجهة التحديات المناخية والأمنية.
وتعزيز التعاون الأمني والهجرة المنظمة عبر اتفاقيات جديدة مع الدول المجاورة.
لماذا على ليبيا الانتباه لهذه الاستراتيجية؟
- تأثير مباشر على الاقتصاد الليبي وقطاع الطاقة،
فأوروبا التي تعد المستورد الأول للنفط والغاز الليبي، تعمل على تقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري، مما قد يؤثر على العائدات الليبية خلال العقد القادم، وفي المقابل ليبيا شريك مرشح لتعزيز غاز أوروبا.
والاستراتيجية قد تزيد من استثمارات أوروبا في الطاقة المتجددة في ليبيا، مما يتيح فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد الليبي نحو مصادر دخل أكثر استدامة. - فرص للتعاون في مجال إدارة الكوارث والتغير المناخي
فبعد فيضانات درنة، باتت ليبيا ضمن الدول الأكثر عرضة لمخاطر التغير المناخي، وهو ما يجعل التعاون مع الاتحاد الأوروبي أمرًا بالغ الأهمية.
مع إمكانية الحصول على دعم مالي وتقني أوروبي لمواجهة الكوارث البيئية وتطوير أنظمة الإنذار المبكر. - تحديات أمنية مشتركة ليبية أوروبية
فمع تصاعد الأزمات في الساحل الإفريقي، قد يتطور سلباً دور ليبيا كنقطة عبور رئيسية للمهاجرين غير النظاميين، مما سيدفع أوروبا إلى تعزيز التعاون الأمني والحدودي مع ليبيا.
ما يستوجب على ليبيا التفاوض بذكاء لضمان أن أي اتفاقيات جديدة في مجال الهجرة تحقق أعلى سقف لمصلحتها الوطنية.
ماذا يجب على ليبيا فعله؟
1. التفاوض مع الاتحاد الأوروبي على دور أكبر في الاستراتيجية الجديدة، لضمان الحصول على تمويلات ودعم تقني في مجال إدارة الكوارث والطاقة المتجددة.
2. تطوير قطاع الطاقة الليبي بما يتماشى مع اتجاهات السوق الأوروبية، عبر الاستثمار في الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر وانتهاز فرصة الطلب الأوروبي على الغاز بسرعة مضاعفة قدرات النقل والتصدير للغاز.
3. إعادة هيكلة آليات الاستجابة للكوارث في ليبيا لتكون أكثر احترافية ومرونة، بما يتيح لها الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات المستقبلية.
4. تعزيز الحوار الأمني مع الاتحاد الأوروبي حول ملف الهجرة ومكافحة الجريمة المنظمة، لضمان اتفاقيات تحقق المصالح المشتركة.
ختامًا نحن أمام خطوة أوروبية ضرورية وفرصة لليبيا.
فإعلان “استراتيجية الاتحاد للاستعداد” هو مؤشر واضح على أن أوروبا تواجه تحديات غير مسبوقة، تتطلب استجابات جذرية وسريعة، ليبيا، بحكم موقعها الجيوسياسي وأهميتها الاستراتيجية، لا يمكنها تجاهل هذه التحولات. الرهان الآن هو كيف يمكن لليبيا الاستفادة من هذه الاستراتيجية لتعزيز أمنها، اقتصادها، وعلاقاتها الدولية، بدلًا من أن تكون مجرد متلقٍ للاستراتيجية الأوروبية.
في عالم يتغير بسرعة، لا مكان للانتظار، الدول التي تتبنى نهجًا استباقيًا وتبني استراتيجيات متكاملة ستكون هي المستفيدة من التحولات العالمية، بينما ستظل الدول التي تكتفي بالمشاهدة عُرضة للمخاطر والمفاجآت غير المحسوبة لا قدر الله.
المستشار “مصطفى المانع”، هو محامي ليبي وخبير قانوني واقتصادي منذ أكثر من 23 عام، عمل مع عدد من المؤسسات الاستثمارية والصناديق السيادية والبنوك في عدد من دول العالم بالإضافة إلى ليبيا، ويعمل كخبير لمراكز بحثية دولية، كما عمل كمحاضر ومدرب لدى نقابة المحامين الأمريكية والرابطة الأوروبية للمحامين، وعمل لسنوات كمستشار لمصرف ليبيا المركزي وعضو مجلس ادارة المؤسسة الليبية للاستثمار والمصرف الليبي الخارجي، وله عدد من البحوث والمقالات المنشورة بالصحف الأمريكية والأوروبية والعربية.