Skip to main content
"المسلاتي يستذكر"
|

“المسلاتي يستذكر”

كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقالا بعنوان ذكريات من زمن التيه ..

وضعني صديقي البيروتي الى جانبه في سيارته، وقال تعال لترى بيروت ما بعد الحرب، ولمدى أكثر من ساعتين, طاف بي على كل جوانب بيروت، أو ما بقى من بيروت، منطقة الأسواق ميدان رياض الصلح، ساحة النجمة، الفنادق التى كانت فاخرة، الشوارع التى كانت عامرة، العمارات التى كانت منيفة، المتاجر التى كانت زاخرة، وفجعت بما رأيت، كلها أصبحت دماراً وخراباً وأطلالاً.

قلت لصديقي : بيروت  الحسناء الناعمة المعطرة المرفهة، كيف يمكن أن تصبح هكذا؟  ماذا فعلتم بها؟، قال الأحرى بي أن أسألك لماذا فعلتم هذا بها، وكيف سمحوا لكم بعمل هذا بها، قلت مستغرباً لمن يعود ضميراً المخاطب وجمع الغائب، قال إن ضمير جمع المخاطب يعود عليكم أنتم العرب وعلى انظمتكم، أما ضمير جمع الغائب فإنه يعود على أولئك الذين يعيشون على الشاطئ الأخر، والذين في قدرتهم تحريك الأحداث وإيقافها وفقاً لمصالحهم، واستطرد مشاكساً، لماذا ينبغي عليك أن تكون غبياً أو أن تتظاهر بالغباء، تجاهلت ملاحظته المثيرة وقلت حقيقة لا أفهم، قال ألا تتذكر كنت دائماً أقول لك أن المجتمع اللبناني ينقسم إلى أكثرية فقيرة كادحة متعبة، وإلى أقلية غنية لاهية لاعبة عابثة، وإلى حكومة تتفرج ولا تفعل شيئاً، ولو أن ما حدث فى لبنان تم على هيئة ثورة إجتماعية دامية، أو على هيئة صراع دام بين الطبقات، أو حتى على هيئة قتال ساخن من أجل السلطة، لقلت لك أنه كان شأناً لبنانيا، لبنانيا، أما وأن ما حدث في لبنان تم بالشكل الذى حدث به، فلا يمكن أن تكون بواعثه وأسبابه ومبرراته قد ولدت ونمت وتطورت، بهذا العمق، وهذه الأبعاد في لبنان.

إن ما حدث هنا على مدى خمسة عشرة سنة كالحة  كانت حرباً عربية/عربيةولم تكن أطرافها اللبنانية سوى أدوات لها، ولم تكن أرض لبنان سوى ساحة لها، ولم يكن شعب لبنان وشباب لبنان  سوى وقود وضحايا لها، كانت الأنظمة العربية الرجعية تقاتل الأنظمة العربية التقدمية على أرض لبنان وبشباب لبنان، وكانت الأنظمة العربية المتدينة تريد تدمير الأنظمة العربية العلمانية على أرض لبنان وبشباب لبنان، كانت الأنظمة العربية التى يسيطر عليها الغرب تصفى حساباتها مع الأنظمة العربية التي تؤيد الشرق على أرض لبنان وبشباب لبنان وإتفق ما يجرى كله مع خطط الدول الكبرى وأهدافها ومشاريعها للمنطقة، ومع ما كانت تريده لوظيفة لبنان ولدور لبنان كمصرف للأغنياء العرب، ومتجر للمتسوقين العرب، ومنطقة اصطياف وراحة للسياح العرب فتحركت لتأجيج النار والمحافظة على استمرارها متأججة لأطول وقت ممكن، بالدس والوقيعة، وأدوات القتال، وحتى بالتدخل المباشر بالرجال والسلاح.

قل لي كيف تفسر قيام الكارثة في لبنان مباشرة بعد إرتفاع أسعار النفط، وإغتناء العرب، وتدفق “البترودلارات” على بلدانهم المصدرة للنفط،  لو أن تغير حظوظ الدول العربية المصدرة للنفط تم في وقت لم تكن فيه بيروت مشغولة بما يجرى عليها من حروب لحصلت مصارفها على بعض الودائع الجديدة، ولاستقطبت أسواقها طلبات من بعض المشترين الجدد، ولجذبت ربوعها بعضاً من السياح الأغنياء الجدد وقد تعمدت إستعمال كلمة بعض لأن مصارف بيروت لم تكن مؤهلة لاستيعاب الأموال العربية الجديدة كلها ولأن أسواق بيروت لم تكن قادرة على تلبية طلبات الشراء العربية الجديدة كلها، ولأن مرافق لبنان السياحية لم تكن معدة لإستقبال السياح العرب الجدد جميعهم، وكان من الطبيعى أن يتحول بعض من هذا كله إلى مناطق أخرى ومنها بكل تأكيد دول الغرب، غير أن الغرب كان جاداً فى رفع شعار “إعادة تدوير الدولار” وكان مصراً على أن يستولى على الكعكة بكاملها من هنا سمح لما كان يجرى فى بيروت أن لا ينتهي إلا بعد تدميرها والخلاص من منافستها.

أرادت القاهرة أن تأخذ مكان بيروت فقامت محادثات الكيلو 101 وفك الارتباط الأول وفك الارتباط الثاني ، ومفاوضات الصلح والتطبيع واتفاقيات كامب ديفيد، وقاطع العرب القاهرة وكان أكثرهم إلحاحاً على المقاطعة عرب النفط، وحاولت عمان  على استحياء أن تتشبه ببيروت ووجدت أنها غير مؤهلة للدور لا شكلاً ولا موضوعاً فتخلت عن المحاولة. وسعت البحرين إلى القيام بالمهمة فلم تنجح سوى أن تكون نقطة عبور للأسعار عند تحولها من أسواق تغرب عنها الشمس إلى أسواق تستقبلها وطمعت في المكانة جزيرة قبرص فقامت بها فتنة عرقية ودينية إنتهت بغزوها من قبل جيوش أجنبية وتشطيرها إلى جزأين، وهيأت أثينا نفسها للوليمة فتحرك بها العسكر وحكمها الجنرالات وافقدوها ثقة شعبها قبل ثقة اصحاب أموال النفط، وهكذا تهيأت أو هيئت كل الظروف لأن تتحول أموال نفط العرب إلى مصارف فرانكفورت وباريس ولندن ونيويورك وطوكيو، وأن يتحول المتسوقون العرب إلى محلات هارودس بلندن وقاليرى لافييت بباريس وشارع كوندوتى بروما وأن يتحول السياح العرب إلى جزيرة كابرى وشواطئ الرفييرا وشقق شارع إدجوي رود ومراتع، لوس انجلوس وسان فرنسيسكو.

قلت يا رب هل هذا حدث كله بالفعل، أين كنت، هل استغرقنى عمل الصيرفة إلى هذه الدرجة، إلى درجة عدم الاهتمام بما يجرى حولي، قال باحثاً عن العراك مرة أخرى هذا صحيح تماماً فإنك تبدو خير مثال لأحد أصحاب الكهف،قلت ألا ترى أن تحليلك يتناقض مع ما يقال من أن استقرار الأوضاع الأمنية في لبنان ثابت وباقٍ ومستديم، ألا تخاف أياديك الخفية أن تعود بيروت إلى ميدان المنافسة من جديد، قال أبداً لثلاث أسباب :

أولاً : لأن العرب لم تتبق لديهم أموالا تذكر فقد أنفقوا جل الذى حصلوا عليه في شراء  الحلوى والألعاب النارية واستئجار المرتزقة لتدمير بعضهم البعض، وثانياً : لأن إعادة تأهيل بيروت لتقوم بدور شبيه بما كانت تقوم به سيستغرق سنوات يتم خلالها إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، وثالثاً: وهذا هو الأهم لأنه من أهداف إعادة ترتيب أوضاع المنطقة أن يعطي لإسرائيل الدور الذى كانت تقوم به لبنان، ستتحول ما بقى من أمول العرب إلى مصارف تل أبيب وطلبات الشراء العربيه إلى مصانع إسرائيل والسياج العرب إلى شواطئ ومراتع دولة صهيون، قلت بأسى هل يمكن لهذا أن يحدث قال ولم لا يا أهبل إن إسرائيل منهم ولهم.

 

مشاركة الخبر