كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقال بعنوان القرض العام “ما له وما عليه “
من خلال قيامها بواجباتها تدخل الدولة في علاقات تعاقدية كثيرة ومختلفة فهي تستخدم وتؤجّر وتستأجر وتبيع وتشتري وتحصل على الخدمات والتوريدات من المورّدين والمتعهّدين والمقاولين في جميع هذه العلاقات تلتزم الدولة بمقابل نقدي تتعهد بدفعه لأي من الأطراف المتعاقد معها عند تنفيذ العقودولا تدخل الدولة في أي التزام أو تعهّد ينتج عنه أو قد ينتج عنه الأداء نقدا إلا بناء على موازنة مالية سنوية تصدر بقانون على أن الوظائف المالية للدولة ليست بهذه السهولة والبساطة فقد لا يتحقق الإيراد المرصد في الموازنة والمقدّر تحصيله خلال سنة من السنوات، فتجد الدولة نفسها في عجز مالي، وقد يطرأ طارئ إقتصادي أو إجتماعي أو طبيعي أو أمنى يحتم على الدولة البحث عن أموال إضافية لمواجهة النفقات التي تترتب عن تلك الأحداث، وقد تجد الدولة أن مواردها العادية غير كافية لإحداث حركة تنموية تبعث في الاقتصاد الوطني حركة وتوسّعاً من شأنهما، على المدى المتوسّط والبعيد، أن يولّدا مزيداً من الدخول ويرفعا مستوى المعيشة للسكان وبالتالي يؤدّيا إلي زيادة الإيرادات العامة.
إذا ما قامت أيّ من الظروف الطارئة أو المخططة المذكورة؛ فإن الدولة تستصدر التشريعات اللاّزمة، التي تأذن لها بالاقتراض، لمواجهة تلك الظرف من السوق المالي الدولي أو المحلّي، وأي أموال تقترضها الدولة تعتبر ديناً عامّا بصرف النظر عن مصدرها؛ من الداخل أو الخارج، إذا اقترضت الدولة من الأسواق المالية الخارجية يعتبر القرض ديناً عاماً خارجيّا، وإذا استدانت من السوق المالي المحلّى أو من أجهزة تجميع المدخرات الوطنية فإن الإلتزام يعتبر ديناً عامّاً محلّياً، وفي كلتا الحالتين يقع عبء الالتزام بالوفاء على الشعب بأكمله وبجميع أجياله المعاصرة لسريان عقود الدين، وتمثل أقساط الدين العام وتكاليف خدمته عبئاً على الموارد العامة، الحالية والقادمة إلى أن يتم سداده بالكامل.
كما أن حلم بعض الاقتصاديين بحالة عدم حدوث أي تضخّم، أي (تصخّم يساوى صفر) لم يعد ممكناً ولا حتّى مقبولاً ، فإن حلم بعض الماليين بحالة توازن كامل ودائم للموازنات العامة أي (دين عام يساوى صفر) لم يعد أيضاً ممكناً ولا حتّى مقبولاً، ففي حالة توفّر التخطيط السليم، والإدارة المالية والاقتصادية القادرة، وبشرط أن تنفق حصيلته علي مشاريع من شأنها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، زيادة الناتج المحلّى وتوليد المزيد من الدخول والإيرادات الكافية لخدمته، فإن الاستدانة العامة تعتبر أمراً مقبولاً ومفيداً.
بالنسبة للأوضاع في ليبيا، فإنه لمّا كانت عوائد النفط لا تزال وستبقى لبعض الوقت تمثل الجزء الأعظم من الموارد العامة، فإن تذبذب أسعاره وانخفاضها غير المتوقع أحيانا يؤدّى إلى نقص حاد في الإيرادات العادية، وبذلك تقل وبشكل كبير الأموال المتاحة للاستثمار وتضمحل أو تتوقف الأنشطة الاستثمارية والمشاريع التنموية وممّا ضاعف من حدة هذه المشكلة؛ ضعف الإنتاج المحلّى، وضيق القاعدة الاقتصادية وعدم تنوعها، وغياب الجهد الوطني الخاص في عملية التنمية، ويؤدّى تدنّى الاستثمار لمدة طويلة إلى حصول إنكماش إقتصادي بما يرافقه من مشاكل اقتصادية واجتماعية، و لمّا كانت السمة المسيطرة، حتّي الآن، على العوامل المحركة للعملية التنموية في ليبيا هي المبادرة العامة والإنفاق المباشر للدولة فقد ترتب عن نقص موارد الدولة أن ظلّت مشاريع في غاية الأهمية والحيوية بدون تنفيذ، أو بدون إستكمال ، إنتظاراً لحدوث انفراج في الأوضاع الاقتصادية والسياسية الدولية ينتج عنه زيادة في الطلب العالمي على النفط وتحسّن في أسعاره، على أن هذا الانفراج المرتقب لم يحدث ولم يعد إنتظار حدوثه ممكناً أو مقبولاً.
إنّ الرأي أصبح مستقرّاً على أن أي اقتراض عام يتم من أجل تمويل عمليات أو مشاريع تسهم في زيادة المعروض من السلع والخدمات يعتبر عملا اقتصاديا يتم تقييمه بنفس الأسلوب الذي تقيّم به الجدوى الاقتصادية لأي مشروع اقتصادي، بل يوجد من الاقتصاديين من يرى الإقتراض لتنفيذ تلك المشاريع بدل تأجيل تنفيذها إنتظاراً لتوفر الموارد العامة لعدة أسباب منها فقدان ميزة تكامل المشاريع، فقدان العائد، إرتفاع الكلفة، إنخفاض معدلات النمو ضياع فرص العمل.
إن التخوّف الذي يبديه بعض الاقتصاديين من تأثير التمويل بالاقتراض على الاتجاهات التضخمية وتعميقها ليس له ما يبرره، حيث أن زيادة عرض السلع والخدمات الناتجة عن الاستثمارات المموّلة بالإقتراض لا يلبث أن يؤدّى إعادة التوازن، هذا من جانب ومن الجانب الآخر فإن الاقتراض العام إذا ما موّل بأكمله أو بجلّه من المدخرات الوطنية فإنه يؤدى إلي نقص عرض النقود وليس لزيادته وفي جميع الأحوال فإن الانفاق العام المفرط فيه مهما كان مصدر تمويله لا بد من يكون له تأثير في الاتجاهات التضخمية، والأمر كله في نهاية المطاف مرهون بدقة التخطيط وكفاءة الإدارة المالية والاقتصادية، فزيادة الدين العام في ظل إدارة تتسم بعدم القدرة أو الكفاءة يؤدّى حتماً إلى كارثة.