كتب: رجب المسلاتي
كنتيجة لظهور المصارف التجارية الحديثة المتخصصة في الأعمال المصرفية البحتة والمتفرغة لها وحدها والتي تقوم بأعمالها غير بعيد عن اهتمام الدولة وإشرافها، انصرف أسلافها القدامى أو صرفوا عنها وتحوّلوا هم أنفسهم إلى عملاء للمصارف الجديدة، يودعون لديها أموالهم ويقترضون منها عند الحاجة وبذلك تركزت كل الودائع لدى عدد قليل من الأجهزة المصرفية، وتجمّعت لديها مبالغ كبيرة من الأموال، لم يكن أصحابها يتقدمون لسحبها دفعة واحدة ومن ثم أقبلت المصارف علي استخدام هذه الودائع في تحقيق الأرباح، وذلك بمنحها في شكل قروض وسلف وتسهيلات مصرفية مختلفة لمن يطلبها مقابل عائد يتوقف مقداره علي أجل القرض ومدى متانة الضمانات المقدمة مقابله، وتأكّدت الوظيفة الرئيسية للمصارف التجارية وهى قبول الودائع ومنح الائتمان في الحدود التي لا تؤثّر في قدرتها على الاستجابة السريعة لطلبات السحب النقدي لأصحاب الودائع.
تستمد المصارف التجارية ثقة المتعاملين معها من قدرتها على تحويل ما يودع لديها من أموال إلى نقد سائل عند الطلب، وهذه القدرة هي ما يطلق عليها السيولة، أي أن يحتفظ المصرف بحد أدنى من أصوله على هيئة سائلة يودعها لدي المصرف المركزي ويستثمر بعضها الآخر في أصول يمكن تحويلها إلي نقد سائل في وقت سريع، ولكي يطمئن المصرف على سيولة أوضاعه لابد له من الاحتفاظ بجزء من موارده على هيئة أموال حاضرة في خزائنه أو أرصدة جاهزة في حساباته لدى المصرف المركزي، وهذا معناه أن المصارف التجارية لا تستطيع إقراض كل ما يودع لديها من أموال بل إنها ملزمة بالاحتفاظ بجزء من الأموال المودعة لديها على هيئة أموال سائلة، وكما فعل أسلافها من التجار والصاغة قبلهم قدّرت المصارف التجارية، مستعينة بما تجمع لديها من خبرة وإحصائيات، الحد الأدنى من الأموال السائلة التي ينبغي عليها أن تحتفظ بها في جميع الأحوال لمقابلة طلبات السحب من ودائعها وامتنعت عن إقراض عملائها أموالاً تتجاوز مجموع ودائعها مخصوما منها الحد الأدنى من الأموال السائلة التي قدّرت الاحتفاظ بها، فإذا قدّرت أنه يجب عليها أن تحتفظ على الدوام بما لا يقل عن 25% من مجموع ودائعها علي هيئة أموال سائلة ، فإنها لا تستطيع إقراض ما يجاوز 75% من هذه الودائع، على أن تحديد نسبة السيولة التي ينبغي علي المصارف التجارية أن تحتفظ بها لم تترك للمصارف وحدها، فقد تدخلت المصارف المركزية وطلبت من المصارف الاحتفاظ بإحتياطي سيولة بنسب حددتها على المصارف أن تحتفظ بجزء منه لدي المصرف المركزي في حساب إحتياطي السيولة، وسمحت لها بإستثمار الجزء الآخر في أصول سائلة عينتها، تكون في معظم الأحوال من الأوراق المالية التي تصدرها الخزانة العامة أو من قروض معينة لأغراض ذات أهمية خاصة، يتعهد المصرف المركزي بإعادة خصمها تشجيعاً للمصارف للاستثمار فيها.
وقد استعملت المصارف المركزية احتياطي السيولة كأداة من أدوات السياسة النقدية، واستخدمته في زيادة أو إنقاص عرض النقود، فإذا رأت أن الاقتصاد يمر بحالة ركود وكساد ويحتاج إلي حقن منشطة من السيولة، قامت بتخفيض نسبة الاحتياطي النقدى، وبشراء أذون وسندات الخزانة التي تحتفظ بها المصارف ضمن احتياطي السيولة، أو بإعادة خصم الديون التي تعهدت بإعادة خصمها، بما ينتج عنه تحرير جزء من الأموال التي تحتفظ بها المصارف في حساب احتياطي السيولة، وتحويل جزء من استثماراتها في الأوراق المالية الصادرة عن الخزانة العامة، والقروض التي أعادت خصمها، إلي نقود تكون متاحة لها لإقراضها لعملائها، الأمر الذي ينتج عنه زيادة في عرض النقود وضخ المزيد من السيولة في شرايين الاقتصاد، أما إذا رأى المصرف المركزي أن الأوضاع الاقتصادية تمر بحالة من السيولة الزائدة عن الحاجة، وتتعرض لاتجاهات تضخمية غير صحية، رفع نسب احتياطي السيولة مما يجعل المصارف مضطرة إلى التوقف عن منح المزيد من القروض، بل وربما على استدعاء جزء من قروضها القائمة، وينتج عن ذلك امتصاص جزء من السيولة المتداولة، وانخفاض عرض النقود، وتعود الحالة الاقتصادية للتوازن.
وبالنسبة للسيولة التي ينبغي علي المصرف الاحتفاظ بها تأثير واضح علي مقدار أرباحه، فالأموال السائلة التي يحتفظ بها في خزائنه، أو في حساب احتياطي السيولة الذي يحتفظ به لدي المصرف المركزي لا تدر ربحاً، والأموال التي يستثمرها في أصول شديدة السيولة والتي يوافق المصرف المركزي علي اعتبارها جزءا من احتياطي السيولة لا تدر إلاّ عائدا متواضعا نسبيا، أي أنه كلما ارتفعت نسبة السيولة، قلت موارد المصرف المتاحة للاستثمار وتحقيق الأرباح، وزادت في نفس الوقت تكلفة ودائعه التى يمكنه إقراضها، فإذا افترضنا أن مصرفا ما ينبغي عليه أن يحتفظ بسيولة بنسبة 25% من ودائعه وأن ودائعه تكلّفه في المتوسط 4% من مجموعها، وأنه يحصل علي فوائد عن قروضه واستثماراته بمعدل متوسط قدره 7% فهذا يعني أنه لا يحصل كفوائد عن مجموع ودائعه المستثمرة سوى علي 5.25%، ويدفع مقابل الحصول على الودائع 4%، من مجموعها ويكون هامش ربحه 1.25%، وليس 3% , (7% – 4 = 3%) كما قد يتبادر إلي الذهن، وذلك كما يلى: الفوائد المدفوعة عن كل مائة دينار تساوي (100 × 4 % = 4 دينار). الفوائد المستلمة عن نفس المبلغ تساوى100-25 X 7% =5.25 دينارا فيكون هامش الربح هو (5.25 دينارا -4 دينار = 51.2 دينار). هذا من جانب ومن الجانب الآخر فإن كلفة الجزء المتاح استثماره من الأموال المودعة لديه ترتفع كلما ارتفعت نسبة السيولة الملزم بالاحتفاظ بها، فكما جاء في المثال السابق فإن متوسط الكلفة عن كل مائة دينار من الودائع هي 4%، وهي النسبة التي عليه دفعها للمودعين. ولكنه لا يستثمر إلاّ 75% فقط من مجموع الودائع، وهذا يعني أن كلفة الوديعة الفعلية أعلي من الكلفة التعاقدية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحسابات الآنفة تمت على اعتبار أن المصارف تدفع فوائد على جميع الأموال المودعة لها وبنفس السعر، وهذا ليس هو الواقع عمليا. فالفوائد التى تدفعها المصارف على الودئع الزمنية تختلف وفقا للأجل، والمصارف لا تدفع أي فوائد عن الودائع تحت الطلب وإن دفعت فبنسبة متدنية.
ونظرا لما لاحتياطي السيولة من أهمية بالغة سواء بالنسبة لقدرة أي مصرف على مواجهة السحوبات النقدية للمودعين، أو لتأثيره على مقدار أرباحه، فإن إدارة السيولة بالنسبة للمصارف التجارية تشغل حيزا واسعا من اهتمام المسئولين فيها، فمن جانب ينبغي عليهم الاحتفاظ بنسبة كافية من السيولة لمواجهة سحوبات عملائهم، لأنهم يدركون أن ثقة عملائهم بهم قائمة على أساس قدرتهم على الاستجابة السريعة لطلباتهم لاسترداد ودائعهم في أي وقت، بالنسبة للودائع الجارية، وفي المواعيد المتفق عليه بالنسبة للودائع لأجل، ومن الجانب الثاني فهم يعرفون أنه لإحتياطي السيولة تأثير سلبي على مقدار أرباحهم من جانبين، فهو أولا يؤثر سلبا على حجم الأموال المتاحة للاستثمار، وهو ثانيا يزيد من كلفة مواردهم الإيداعية وبالتالي يقلل من أرباحهم. والشاطر منهم من يستفيد من خبرته، ومن تجاربه، ومن الإحصائيات والبيانات المتوفرة لديه، ومن إلمامه بالمحيط الذي يعمل خلاله، ومن معرفته بالمتعاملين معه، ومن متابعته الواعية لتوجهات الاقتصاد المحلي والإقليمي والدولي، في تحديد نقطة ليس فيها من الحرص المتطرف ما يحرمه من تحقيق أرباح هي هدفه، وليس فيها من المغالاة المبالغ فيها ما يعرض مصرفه للخطر، أما كيف يمكن الوصول إلى هذه النقطة وكيف تحدد، فأمر لا يخضع لقانون، ولا تحكمه النظريات الهندسية، ولا القواعد الحسابية، إنما يعتمد على الخبرة والحنكة والاستقراء الصحيح لسلوك المودعين وأساليبهم في أداء مدفوعاتهم، والفهم الواعي للمستوي الاقتصادي والاجتماعي للشرائح التي يقدّم لها خدماته. وعلى العموم فحيثما توطدت ثقة الجمهور بالجهاز المصرفي، وسادت عادات التعامل مع المصارف، وانتشر استخدام الصكوك في تسديد المدفوعات، قلّت حاجة الناس للاحتفاظ بسيولة عالية في بيوتهم ومكاتبهم، وعلى العكس من ذلك تماماً، لا مفر أمام المصارف في المجتمعات التي لا تنتشر فيها العادات المصرفية السليمة، ويفضل أفرادها الاحتفاظ بمدخراتهم النقدية في بيوتهم، وتتم فيها المدفوعات فيما بينهم عداً ونقداً غير الإحتفاظ بنسبة عالية من مواردها على هيئة أموال سائلة.