كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقال بعنوان “المصارف ومتانة قروضها”
المصارف لا تقرض أموالها الخاصة وإنما تقرض أموال المودعين لديها، المودعون لديها من الأغنياء ورجال الأعمال أصحاب الملايين ومن أصحاب المدخرات الصغيرة الذين لا تعدّ ودائعهم بسوي عشرات أو مئات الدنانير،وهذه الأموال سواء اعتبرت من وجهة نظر القانون ودائع استأمن أصحابها المصارف عليها أو قروضاً منحوها لها، ففي الحالتين على المصارف المودعة لديها إعادتها لأصحابها عند طلبهم وفي المواعيد المتفق عليها،والواقع أن رأس المال الحقيقي للمصارف هو الثقة التي يضعها فيها المتعاملون معها وأن أساس هذه الثقة، هو بالتحديد اطمئنان الجمهور علي يسار المصارف أي قدرتها على ردّ ما يودع لديها من أموال لأصحابها عند طلبهم، واستناداً علي هذه الثقة وطالما ظلّت تتمتع بها يعلم القائمون علي المصارف أن المودعين لن يسحبوا ودائعهم دفعة واحدة، وأن ما يسحبه بعض المودعين خلال فترة ما يودع غيرهم مثله أو أكثر منه، ويبقي لدى مصارفهم على الدوام ما يمكنهم من إقراض جزء منها دون خوف من إعسار (عدم القدرة علي الدفع)، غير أن هذا لا ينبغي أن ينسي المصارف أنها تتصرف في أموال مؤتمنة عليها، تتحمل مسئولية حمايتها والمحافظة عليها وإعادتها لأصحابها عند الطلب.
ومن أهم عناصر هذه المسئولية أن تتوخّى الضمان عند إقراضها أو إقراض جزء منها للغير،وإذا كانت السيولة الكاملة تعني أن تحتفظ المصارف بجميع ودائعها في صورة أموال سائلة، وبالمثل لا يتحقق ضمان الودائع ضماناً كاملاً إلاّ إذا امتنعت المصارف عن الإقراض منها، وهذا أمر لا يمكن تصوره ليس لأن أيا من هذين الوضعين لا يحقق للمصارف أي ربح، وتحقيق الأرباح هو هدف المصارف والداعي لوجودها وحسب، ولكن لما ينتج عنه من أضرار فادحة بالنشاط الاقتصادي، فكما أننا لا نستطيع أن نتصور عالم اليوم بدون كهرباء وهواتف وطائرات وسيارات ومصانع وطرق وكباري. الخ. الخ. فإننا لا نستطيع تصوره بدون إئتمان والائتمان المصرفي يمكن تعريفه بأنه المخاطر المحسوبة التي يقبل بها الجهاز المصرفي عند قيامه بإقراض جزء من الأموال المودعة لديه.
وهكذا تجد المصارف نفسها أمام السؤال الذي تعرضت له فيما يتعلق بمتطلبات السيولة، كيف توائم بين أهدافها في تحقيق أعلي ما يمكن من الأرباح، ومسئوليتها عن توفير أقوى الضمانات لقروضهاوإذا كانت إدارة متطلبات السيولة أمرا مهما فإن إدارة مخاطر الائتمان لا تقل عن ذلك أهمية،وكما رأينا أنه إذا قلّت السيولة عما يجب فقد تتعرض المصارف إلى حالة من العسر، مما قد يضع سمعتها ومصداقيتها في خطر شديد، وإذا زادت عما يجب قلت الأموال المتاحة للاستثمار من جانب وزادت كلفة الودائع من الجانب الآخر، ونتج عن ذلك انخفاض أرباحها، وبالمثل إذا زادت مخاطر الائتمان بأكثر مما هو مقبول ومحسوب، تعرّضت المصارف للخسارة بسبب كثرة الديون المعدومة أو اضطرارها لتكوين مخصصات كبيرة مقابل الديون المشكوك في تحصيلها، وإذا اتجهت المصارف إلى الشطط في المطالبة بضمانات مبالغ فيها قلّ الطلب علي الإقتراض منها وهبطت تبعاً لذلك أرباحها.
إن غاية المصارف أن تحقق لحملة أسهمها أعلى ما يمكن من أرباح، وأن تحتفظ بأقل ما يمكن من الأموال السائلة، وأن تتجنب أكثر ما يمكن من المخاطر، وهذه المتطلبات الثلاثة، إن لم تكن غير متعارضة فهي غير متوازية، والملاءمة بينها تحتاج إلى مهارة غير عادية، تشبه مهارة حواة الكرات الثلاث، واحدة باليد اليمنى، والثانية باليد اليسرى، والثالثة طائرة في الهواء، ينقل التي في اليد اليسرى إلى اليد اليمنى، ويرمي التي باليد اليمنى إلى الهواء، ويتلقّى باليد اليسرى الكرة الطائرة في الهواء وهكذا، وهكذا، حركة تحتاج إلى مهارة، وإلى فطنة، وإلى إنتباه وتركيز وإلى سرعة وحرص، مهارة شخصية لا تحكمها قواعد، ولا قوانين، ولا تدرّس في الكليات، ولا تحويها الكتب والمراجع، ولا سبيل لاكتسابها سوى بالتمرين والممارسة.
وليست إدارة متطلبات السيولة، ومتطلبات المتانة، ومتطلبات الربح، ببعيدة عن اللعب بالكرات الثلاث، وإن كانت تستوجب إلى جانب المهارة الشخصية، العلم، والقدرة على الإستقراء، والمعرفة والإطلاع ، ومتابعة إتجاهات الاقتصاد وأحواله، وأوضاع العملاء وشئونهم،من هنا كانت الصيرفة مهنة، كالطب، والهندسة، والمحاسبة، والمحاماة، تقرأ عنها في الكتب والمراجع، وتستمع إلى محاضرات فيها على مدرجات المعاهد والجامعات، ولكنك لا تتقنها إلا بالتمرين والممارسة، لا بد لكل مصرف من أن يستثمر جزءا من الأموال المودعة لديه لتحقيق الربح، وليفعل ذلك لا مفر له من قبول بعض مخاطر الإئتمان التي قد يتعرض لها بسبب عدم قدرة مدين أو أكثر من مدينيه على سداد جزء من أو كل الأموال التي إقترضها، ومثل هذه الأخطار كثيرة وترجع لأسباب مختلفة، منها ما ينشأ عن أمور طارئة، أو عن كوارث طبيعية، أو عن قوّة قاهرة، ومنها ما ينشأ بسبب ظروف غير ملائمة يمر بها الاقتصاد بصفة عامة، أو قطاع معيّن منه، ومنها ما يترتب عن تقصير المصرف المقرض في الالتزام بقاعدة KYC وهي وجوب التعرّف على المدين معرفة كاملة وشاملة، أو لسوء إدارة المقترض لنشاطه، أو لسوء نيته وفساد ذمته،ومنها ما يكون سببه تغير أذواق المستهلكين وتحولهم من إستهلاك سلعة إلى أخري أو من موضة إلى غيرها.