كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقال بعنوان : “تطور العمل المصرفي”
العمليات المصرفية كانت تنمو وتترعرع وتتطور عبر العصور والقرون وفي كل الحضارات منذ آلاف السنين قبل الميلاد، غير إنها لم تنتظم في تنظيم واحد يجمع شملها ويتخصص في أدائها إلاّ في عصور متأخرة، يرجعها البعض إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، ويرجعها البعض الآخر إلى الربع الأخير من القرن السادس عشر، وسواء أكانت المصارف الحديثة قد ظهرت في القرن الثاني عشر للميلاد أو القرن السادس عشر للميلاد فالمهم إنها لم تخلق من عدم، فهي تعتبر وريثة لما سبقها من مؤسسات قدّمت أنواعاً من الخدمات المصرفية وطوّرتها بحيث أنه عندما قامت المصارف الحديثة وجدت تحت يديها إرثاً واسعاً اعتمدت عليه في استيعاب عملياتها، وتشكيل كياناتها، وتنظيم أمورها، وأساساً متيناً تبنى عليه نشاطها وتستمد منه الخبرات والتجارب.
والجدير بالملاحظة أن ظهور المصارف الحديثة ارتبط ببدء إهتمام الأجهزة الحاكمة من ملوك ونبلاء وأمراء إقطاع بالأعمال المصرفية وبالنشاط المصرفي وأهميته فكما رأينا كانت النقود الذهبية والفضية تستخدم في التبادل علي هيئة سبائك يتم فحصها والتأكد من وزن محتواها من المعدن النفيس، في كل مرة تتم فيها عملية مبادلة، وكانت هذه الطريقة تعرقل المبادلات، وتتضمن احتمالات الغش والتلاعب، لذلك تدخلت السلطات في مراحل متأخرة من التطور التاريخي في نظام التعامل بالسبائك الذهبية والفضية، بغرض تشجيع التبادل وحماية المتعاملين بهذه السبائك، وعمدت إلى تحويل النقود المعدنية من نقود موزونة علي هيئة سبائك، إلى نقود معدنية معدودة علي هيئة قطع صغيرة موحدة الوزن والعيار والشكل، تصدرها جهة واحدة تسمها بسمتها وتحفر علي وجهيها صور وكتابات ورموز تبين إسم من أصدرها وفئتها وتاريخ ومكان سكها الخ،، وعلى الرغم من أن بعض الملوك والأمراء عمدوا إلي الغش بإنقاص محتوى النقود المعدنية المعدودة التي يصدرونها من المعدن النفيس لاستعمال الفرق عند اشتداد الأزمات أو لتمويل الحروب، فإن النقود المعدنية المعدودة أكدت أنها أحسن أنواع النقود المعدنية وأكثرها ملاءمة:، واستمرت في التداول حتى عشرينيات القرن العشرين حين حلت محلها النقود الورقية المستندة علي قاعدة ذهبية، تحدد أسعار إحداها مقابل الأخرى على أساس وزن الذهب الذي تحتويه وتمثله كل منهما، وتأكّد هذا في اجتماع دولي عقد ببريتون وودز بالولايات الأمريكية المتحدة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الذى تمخض عما أصبح يعرف بنظام بريتون وودس، والذى حافظ علي نظام النقود الورقية المستندة علي الذهب، إلا أنه أعطاها مرونة بحبث يمكن لأي عملة أن ترتفع أو تنخفض في أسواق الصرف بنسبة معينة، لا يسمح لها بتجاوزها إلى أعلى أو إلى أسفل، وفرض علي المصارف المركزية، التدخل في أسواق الصرف إذا تعدّت عملتها النسب المسموح بها ارتفاعاً أو هبوطاً، إما ببيع عملات أجنبية في الأسوق مستعملاً إحتياطياته الأجنبية لشراء عملته الوطنية، أو بشراء عملات أجنبية مستعملاً في الشراء عملته الوطنية، و للمحافظة على سلامة هذا النظام أسس صندوق النقد الدّولى ككلب حراسة، ليحافظ علي التوازن المطلوب، فإذا تجاوزت أسعار عملة بلد ما النسبة المسموح لها بتجاوزها، طلب من مصرفها المركزي زيادة عرضها في ألأسواق مستعملاً في ذلك جزءاً مما يملكه من النقد الأجنبيى، وزيادة عرض عملته الوطنية في الأسواق، حتّى ترجع الأمور إلى الأوضاع الصحيحة، وبالعكس، إذا انخفضت أسعار عملة بلد ما وتجاوز إنخفاضها بالنسبة المحددة طلب من مصرفها سحب جزء منها، وذلك ببيع جزء من إحتياطياته الأجنبية، في كثير من الأحيان تكون الاحتياطيات الأجنبية لدولة ما لاتكفي لإعادة توازن أسعار عملتها في الأسواق وحفظها فى حدود نسبة الإنخفاض المسموح بها، هنا تلتجئ لصندوق النقد الدولي لتقترض منه عملات أجنبية تكفي لإعادة التوازن، يقوم صندوق النقد بدراسة اقتصادها، دراسة شاملة ومفصلة ودقيقة، إذا وجد أن العجز في ميزان مدفوعاتها مؤقت وناتج عن أسباب طارئة، يمكن علاجها بمرور وقت قصير وبعلاج الأسباب التي أدت إليه، قام باقراضه، أما إذا كان السبب هيكلياً، فإنه يفرض عليها، قبل إقراضها، القيام باصلاحات اقتصادية قاسية وواسعة المدى من بينها علي الدوام تخفيض قيمة عملتها، ويعنى تخفيض العملة حينذاك إنقاص وزن محتواها من الذهب، وعانت ولا تزال، الدول الفقيرة من قسوة بنود قائمة صندوق النقد الدولى لتحقيق التوازن وشروط قروضه، وشاعت تسميته بصندوق: النكد الدولى، وإستمر العمل بهذه الترتيبات حتي أزمة أوائل السبعينيات حين اضطرت الولايات الأمريكيه في عهد الرئيس نيكسون إلي إلغاء ارتباط عملتها (الدولار) بالذهب وسحبت البساط من تحت نظام بريتون وودس ونظام العملة الورقية المستندة إلي قاعدة ذهبية أو عملات قابلة للتحويل إلي ذهب وبذلك إنهارت أسعار الصرف الثابتة وأصبحت أسعار العملات تستمد قوة الإبراء من أحكام القانون الذى صدرت بموجبه وتعتبر حقّاً على إقتصاد دولة المصرف المركزي الذي أصدرها وترتفع أسعارها أو تنخفض حسب العرض والطلب وتصل إلى ما هي عليه اليوم عبارة عن صك ملكية سهم لحامله يجعله شريكاً في أصول البلد الذي أصدره، فمن كان في جيبه ورقة من فئة مائة دولار أمريكي، فهو يمتلك ما قيمته مائة دولار أمريكي من أصول الولايات الأمريكية المتحدة وخدماتها، له الحق في استبداله بصك ملكية في إقتصاد بلد آخر أو أن يستبدله في أسواق الولايات المتحدة الأمريكية بما يريده وما لا يجاوز قيمة مائة دولار من السلع والخدمات. ويتخذ هذا الصك أشكالاً مختلفة، مرة على هيئة ورقة مزخرفة تحمل اسم المصرف المركزي الذي أصدرها وتوقيع محافظه، ومرة على هيئة كارت “بلاستيكي” جميل، ومرة مجرد قيد في ذاكرة حاسوب.