كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقالا بعنوان : محنة الدينار “الحلقة الثالثة”.
من سوء حظ ليبيا أن تخضع للرقابة على النقد منذ استقلالها حتّى اليوم، و قياساً على مجريات الأمور الحالية والإهدار المالي القائم فإنه على الشعب الليبي أن يكون مستعداً لتحمل مشاق الرقابة على النقد لأجيال أخري، ففي ليبيا كان علينا إخضاع مواردنا من العملات الخارجية للرقابة على النقد وبدرجات متفاوتة من الشدة منذ الأيام الأولى للاستقلال، في السنوات التالية لإعلان الاستقلال وحتى عام 1962 كانت مواردنا من العملات الأجنبية في غاية التواضع كانت تأتي كما سبق القول من عائدات بعض الصادرات التي افتقدنا لذة طعمها رغم ضآلة قيمتها، ومن تأجير القواعد الأجنبية ومن المساعدات والمعونات الأجنبية، وكانت الرقابة المشددة على النقد آنذاك فرضاً لابد من أدائه.
بعد اكتشاف النفط وبدء تصديره تحسنت مواردنا من النقد الأجنبي بشكل كبير وكانت هناك فرصة لإلغاء الرقابة على النقد، غير أن سيطرة الجاليات الأجنبية على الإقتصاد الوطني جعلنا نخشى أن تستغل هذه الجاليات إلغاء الرقابة على النقد بطريقة تضر بمصالحنا، بعد ثورة سبتمبر وإرتفاع أسعار النفط وتنامي مواردنا منه وتلييب الإقتصاد سنحت فرصة أخري للتخلص من الرقابة على النقد إلاّ أن النظام الاقتصادي الذي تم اختياره، وتنامي الإنفاق بالنقد الأجنبي إلى درجة الإهدار حال دون التفكير في إلغاء الرقابة على النقد، منذ بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي تباطأت جهود التنمية، مما نتج عنه فوائض جيدة من النقد الأجنبي، وخلق ما يسمى بالمال المجنب وحدث إنفتاح ملحوظ في الاقتصاد، وظهرت فرصة ثالثة لإلغاء الرقابة على النقد، والواقع أن المصرف المركزي قام بعدة إجراءات تصب جميعها في إتجاه إلغاء الرقابة على النقد، ومن أهم هذه الإجراءات صدور القانون رقم واحد لسنة 2005، الفصل الخامس منه تناول تنظيم عمليات النقد الأجنبي، إذ نصّت المادة الحادية والأربعين منه، على أنه يجوز لكل شخص طبيعي أو إعتباري خاص، أو عام الاحتفاظ بما يملكه، أو يحوزه، أو يؤول إليه من نقد أجنبي إذا كان متأتياً من عائد نشاطه، وله إجراء أي عملية من عملياته، بما في ذلك التحويل للداخل أو الخارج، بالإضافة إلى ما تضمنه هذا الفصل من قانون المصارف الجديد، من تشجيع للقطاع الخاص بجميع أشخاصه، ولبعض أجهزة القطاع العام، التي يتأتّى لها الحصول علي نقد أجنبي من عائد نشاطها، على التوسع في الأنشطة قديمة أو جديدة مبتكرة، التي تؤدى ممارستها إلى الحصول على النقد الأجنبي، خاصة القطاع السياحي فإنه أيضاً يمهد الطريق إلى قيام سوق صرف موازي تتحدد فيه أسعار التبادل بين الدينار الليبي والعملات الأجنبية وفقاً لقانون العرض والطلب، وهذا يعتبر خطوة أولى في غاية الأهمية نحو التخلص من قسوة الرقابة على الصرف وتعقيداتها، مع كل الأسف لم يبادر المسئولون في مصرف ليبيا المركزي بتنظيم هذا السوق، وتحديد الناشطين فيه وإخضاعه للرقابة والمتابعة، الأمر الذي ترتب عنه أن هذا السوق عندما نشط في المدة الأخيرة، كان جامحاً، عمّته الفوضى، وكان أداؤه مدعاة للأسف.
عند قيام ثورة فبراير كانت كل الأمور مهيأة للتخلص نهائياً من الرقابة على النقد خاصةً وأن الدينار الليبي لا يطمح في أن يكون بل لا يريد أن يكون من عملات التبادل الدولي إنه لا يريد أكثر من أن يحظى بالمكانة والهيبة التي يؤهله لها غطاؤه المتين وموارده الكافية، وكان في الإمكان أن يكون أول قرار هام يتخذه رجال فبراير في المجال الاقتصادي هو إلغاء الرقابة على النقد كلياً مع كل أسف مرة أخرى ما حدث بعد ذلك أجل التفكير في هذا الاحتمال لعقود أخرى قادمة.