Skip to main content
المسلاتي يكتب : للمصارف قصة
|

المسلاتي يكتب : للمصارف قصة

كتب رجب المسلاتي لصحيفة صدى الاقتصادية مقال بعنوان “للمصارف قصة”

لا يعرف على وجه التحديد حتى الآن، تاريخ محدد لنشأة المصارف وظهورها ولا متى أسس أول مصرف، ولكن المؤكد أن الملامح الأولي للأعمال المصرفية قد عرفته التجمّعات البشرية منذ أن عرف الإنسان النقود واستعملها كوسيط للتبادل، ولابد من أن عمليات شبيهة بالعمليات التي تقوم بها المصارف اليوم قد تمت في الحضارات القديمة، مثل حضارة بابل، والحضارة الفرعونية، والحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية وغيرها من الحضارات المغرقة في القدم، فقد جاء في كتاب (مبادئ العمليات المصرفية) الصادر في سنة 1968 عن المعهد الأمريكي للصيرفة، أنه عثر في حفريات تمت في صحراء العراق، علي قطعة أثرية، مصنوعة من الفخّار، يعود تاريخها إلي ألفى عام قبل الميلاد، كشفت عن أن بابل القديمة عرفت، منذ ذلك التاريخ البعيد، نظاما إقتصادياً مبنياً على النقد والائتمان، ظهرت خلاله الحاجة إلي خدمات مصرفية، إذ تدل الكتابات المدونة على إحدى هذه القطع الأثرية الفخّارية، على أن البابليين عرفوا، منذ ألفي عام قبل الميلاد، عمليات إقتراض تمت بموجب سند يشبه، إن لم يتفوق، على ما نعرفه اليوم بالكمبيالة “السند الأذني” وهي من الأوراق التجارية المعروفة حتى عصرنا هذا، ومن وسائل الائتمان التي يجري تداولها في المصارف حتى الآن، وتجري الترجمة العربية لهذه الوثيقة كما يلي تقريباً : (واراد-إليش ابن تاريبوم، استلم من كاهنة الشمس، ابنة إبّاتوم، شيكل واحد من الفضة بميزان إله الشمس، وهذا المبلغ سيستعمله في شراء بذور السمسم، وسيسدده لحامل هذا السند، عند جني محصول السمسم القادم، بمقدار من حبوب السمسم محسوبا علي أساس الأسعار الجارية لحبوب السمسم حينذاك.

إن هذه الكمبيالة “السند الإذني”، الذي حرر منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، لا يكاد يختلف عن السند الإذني كما نعرفه اليوم، فهو يخبرنا أن مديناً وهو المزارع السيد واراد – إليش، قد أقترض من دائنة، هي المقدسة ابنة إبّاتوم كاهنة معبد الشمس، مبلغاً من المال حدد بوزن شيكل واحد من الفضة محسوباً علي أساس ميزان إله الشمس، وأن الغرض من الحصول على القرض هو تمويل عملية زراعية موسمية تمكّن المقترض من شراء بذور السمسم لزراعتها في حقله، وحدّد موعداً للسداد، (ليس بالتاريخ واليوم) وإنما بموسم جني المحصول، وبيّن أن السداد سيتم لحامل السند ويتم عينا بمقدار من حبوب السمسم يحدد علي أساس أسعار السمسم الجارية عند السداد.

من دراسة نص هذا المستند، لا يسع المرء إلا أن يبدي إعجابه بالتقدم الواضح الذي كان قد وصل إليه فكر وأسلوب الائتمان منذ ذلك الزمن القديم، فيلاحظ (أولا): أن الغرض من القرض قد حدد بعناية في سند منحه، ويلاحظ (ثانيا): أن الدائنة، كاهنة معبد الشمس، لم تطلب من مدينها السيد (واراد إليش) أي ضمانات، لا شخصية ولا عينية، واكتفت بتوقيعه علي سند الدين، الأمر الذي يعني أنها كانت تأتمنه وتثق به، بالإضافة إلى ذلك يستنتج منه أنه كان ذا ملاءة مقبولة ويتمتع بسمعة جيدة، وفي هذا دلالة لا تنكر، علي قدم فكرة الائتمان نفسها، التي تبنى علي أساس الثقة والسمعة والأداء السليم للمقترض، قبل الضمانات العينية التي يعرض تقديمها. وفيما يتعلق بعملة القرض، يلاحظ (ثالثا): أنها حددت تحديدا دقيقا يصل إلى حد الكمال، فقد قدّرها سند الدين بوزن محدد من الفضة هو وزن شيكل واحد، واشترط أن يتم هذا الوزن علي أساس ميزان عيّنه، وهو ميزان إله الشمس. والملاحظة (الرابعة) تتعلق بأجل السداد الذي ربط بموعد جني المحصول، ولم يحدد بتاريخ يوم بعينه، إن هذا لا يعني سوى أن أسلافنا القدامى قد عرفوا طبيعة الائتمان الزراعي، وقدروا أن التدفقات النقدية للمزارعين ترتبط بمواسم الحصاد وجني المحاصيل، التي لا تبتدئ وتنتهي في يوم محدد، وإنما تخضع بداياتها ونهاياتها لعوامل طبيعية ولدورة الشمس وفصول السنة، وتستمر هذه البدايات والنهايات أياما كثيرة لا بد من أن تؤخذ في الحسان. يأتي بعد ذلك كملاحظة (خامسة) أن سند الدين هذا، لم يشترط أن يتم السداد للدائن نفسه وفي محل إقامته، وإنما سمح للمدين بأن يدفع قيمته لحامله؛ أي لأي شخص يقدمه إليه للحصول على قيمته عند حلول أجله، وفي تعبيراتنا الجارية اليوم يعتبر هذا السند سنداً لحامله، يمكن أن تنتقل ملكيته من شخص إلى آخر بمجرد الاستلام والتسليم، وهذا يدل على أن فكرة بيع وشراء وخصم سندات الدين، وهي من العمليات التي تنشط مصارف اليوم في القيام بها، قد عرفت منذ عصر البابليين، وتتسم الملاحظة (السادسة) بأهمية خاصة لها صلة شبيهة بما نسمّيه اليوم بمخاطر أسعار الصرف، ففي سند الدين هذا نلاحظ اختلاف العملة التي تم بها دفع قيمة القرض، وهي وزن شيكل واحد من الفضة، عن عملة سداده، وهي مقدار لم يحدد سلفاً من حبوب السمسم، عند حلول أجل السند لا بد من أن تعرف علي وجه التحديد كمية حبوب السمسم التي يتوجب علي المدين تسليمها لحامل السند، فكيف تحدد هذه الكمية، وعلي أساس أي أسعار تحسب؟، ومن يتحمل مخاطر ارتفاع أو انخفاض أسعار السمسم خلال المدة من نشوء الدين إلي حين سداده؟، إن هذا الأمر لم يغب عن فطنة المقدسة كاهنة الشمس، إذ اشترطت أن يحسب مقدار السمسم الذي يجب علي المدين أداءه، علي أساس أسعار حبوب السمسم الجارية في تاريخ السداد، وحمّلت بذلك المدين بمخاطر أي تغير في أسعار السمسم، فإذا كانت أسعار السمسم قد زادت كان ذلك في صالحه فإنه سيسلم لحامل السند مقدارا أقل من حبوب السمسم، أما إذا كانت أسعار السمسم قد انخفضت فسيتحتم عليه أن يسلم لحامل السند مقدارا أكبر من السمسم. ومثل هذه العمليات التي تختلف عملة تسويتها عن عملة إنشائها والتي تتضمن مخاطر تغير أسعار إحداهما مقابل الأخرى بما قد ينتج عنه ربح لأحد طرفيها، وخسارة لطرفها الآخر، من العمليات التي تجريها المصارف حالياً في كل يوم، وتتخذ احتياطات مختلفة في سبيل الحد من أضرارها. على أننا ينبغي ألا ننسي أن الدائنة في هذه العملية الائتمانية المغرقة في القدم، اعتمدت في حماية نفسها على ثوابت اقتصادية تستند على قانون العرض والطلب. فهي تدرك، بالعلم أو الخبرة، أن أسعار السمسم لا بد وأن تميل إلى الانخفاض بعد انتهاء موسم جنيه، إذ يزداد عرضه في الأسواق، وأنها بالتالي ستحصل منه، مقابل مقدار دينها، على كمية لا تعرضها للخسارة، إن لم تحقّق لها ربحاً إضافياً .

ولا يجب أن يبدو غريبا أن يقوم كهنة معابد ذلك الزمان بدور المصرف المقرض، فقد كانت لدي معابدهم الموارد الكافية لذلك، لديها مواردها الذاتية، التي تأتي إليها من ريع أطيانها وممتلكاتها الواسعة ومن قرابين وهدايا أتباعها، ولديها موارد غير ذاتية متمثلة فيما يودع لديها من أموال وأمانات لحفظها، تستلمها من بعض رعاياها الذين وثقوا بها واستأمنوها، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل المعابد وكهنتها هم وحدهم الذين كانوا يقومون، في ذلك الزمان القديم، بمعاملات مصرفية تمثلت في استلام الودائع ومنح القروض؟

مشاركة الخبر