المسلاتي يكتب : من الذاكرة

471

كتب : محافظ مصرف ليبيا المركزي سابقاً الدكتور” رجب المسلاتي”

في عقد الخمسينيات من القرن الماضي كان عقداً خصبا زاخرا بالنضال والكفاح والثورات، الجزائر ثائرة، واليمن الجنوبي ثائر، وأفريقيا تعج بقادة عظام  يتقدمون الصفوف ويشعلون الثورات لتخليص شعوبهم من الرقّ والاستعباد، كان هناك، (باتريس لو مومبا) وكان هناك (أحمد سيكو تيري)، وكان هناك (كيت كاوندا) وكان هناك (كوامي انكروما) وكان هناك (مودويبو كيتا) وكان هناك (جومو كينياتا).

وكان هناك نجما ساطعا في مصر، ملأ الأسماع والأبصار، جمال عبد الناصر، كان هناك الكثير لتسمعه والكثير لتقرأه وتقرأ عنه، تنفعل به وتتفاعل معه، وكان هناك الحدث الأحدث والأهم والأبرز، ذو الأبعاد الدولية بعيدة المدى وهو إعلان جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس .. ولقناة السويس حتّي ذلك الحين، تاريخ شؤم على مصر، صاحب فكرتها مهندس فرنسي، شقت في عهد الخديوي إسماعيل، ومات خلال حفرها المئات من عمّال السخرة المصريين، منح امتياز إدارتها لشركة تمتلك أغلب أسهمها فرنسا وبريطانيا. 

أرادت مصر تنفيذ فكرة قديمة وهي بناء سد ضخم على وادي النيل في منطقة أسوان  بكلمات قليلة مهينة وجارحة سحبت الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها وعدها بمساعدة مصر في تمويل بناء السد، عقابا لها على شراء السلاح من الاتحاد السوفييتي، واعتقدت وحلفاؤها من دول الغرب أنهم وجّهوا لجمال عبد الناصر ضربة قاضية، ولكن الضربة القاضية جاءت من مصر إذ أعلن زعيمها جمال عبد الناصر في حفل بمناسبة وطنية أقيم في الإسكندرية تأميم شركة قناة السويس، أهم ممر مائي للسفن التجارية وناقلات النفط قائلا لشعبه: “سحبت أمريكا وعدها لمساعدتنا في تمويل بناء السد العالي؟ لا بأس سنبنيه بجهودنا وبإيرادات قناة السويس” وكانت ضربة معلّم رقص لها العالم الثالث في الشوارع، واستشاطت دول الاستعمار القديم غضبا، وتوجست بعض الدول خيفة من تداعياتها غير المضمونة.

كانت بريطانيا وفرنسا أكثر الدول غضباً وحنقاً على مصر لتأميمها لشركة قناة السويس لأنهما يمتلكان أغلبية أسهمها ويستوليان على إيراداتها ويعتبران القناة وشواطئها من أملاكهما، ويديرانها كدولة داخل الدولة .. وبدأت المعركة، تكوّنت جمعية المنتفعين بقناة السويس بقيادة بريطانيا وفرنسا، إلاّ أن هذه الجمعية لم تكن فعّالة لأن أغلبية أعضائها كان يهمهم حرية الملاحة وليس إلغاء التأميم، لجأت بريطانيا وفرنسا للأمم المتحدة طاعنتين في حق مصر في تأميم شركة قناة السويس على اعتبارها شركة عالمية، عارضتها الأغلبية وكان أشدها صلابة كريشنا مينون، القانوني الكبير ووزير خارجية الهند إحدى أهم الدول المستعملة للقناة وفشل المسعى، حاولتا إثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة وأوعزتا للمرشدين الأجانب بالانسحاب.

حصلت مصر من اليونان ويوغسلافيا على بدلاء عنهم، جاء للقاهرة روبرت منزيس رئيس وزراء أستراليا كوسيط، أساء الكلام والتصرف وغادرها شبه مطرود، قالت الصحف المصرية أنه كان يرفس كالبغل، والتشبيه غير خاف فالبغال الاسترالية أحسن بغال العالم، تآمرتا مع إسرائيل فيما سمى بالعدوان الثلاثي، قاوم الشعب المصري بصلابة ولم يجدا دعما من حليفتهما الكبرى الولايات المتحدة وعارضتهم دول عدم الانحياز ودول المجموعة الاشتراكية واضطرتا للانسحاب تحت ضغط الرأي العام العالمي، وخرج جمال عبد لناصر من الأزمة بنصر سياسي مؤزر وأصبح زعيما للعرب وللعالم الثالث دون مازع.