كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل
بحلول الأول من شهر فبراير من العام 2020 خطت بريطانيا نصف خطوة للخروج خارج أسوار الاتحاد الأوروبي، فيما استكملت نصف الخطوة الآخر بحلول نهاية العام، والذي يُعرف بالبريكست Brexit، وفي الوقت الذي سال فيه حبر كثير عن عيوب ومميزات هذه الخطوة فإن أغلب المتابعين والكُتاب لم يُعيروا ذلك الاهتمام لا بالاستراتيجيات أو الآليات المقترحة للاقتصاد البريطاني لما بعد الخروج العسير نهائياً من الاتحاد، وخلاصة القول في هذا الجانب بالتحديد ودون الخوض في أي تفاصيل هو أن الإنجليز قد عملوا ولازالوا يعملون منذ سنوات خلت على وضع عدد لا متناهي من الخطط والسياسات والأليات والسيناريوهات لما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي من خلال الاعتماد على مزايا بلادهم التنافسية، وبالأخص بعد فقدان لندن لمركزها المالي العالمي، والعمل أكثر من ذي قبل على جذب مزيد من العقول وبالأخص من الدول النامية ( دول الجنوب) ومن ودول الكومونولث، بالإضافة إلى استقطاب أعداداً محدودة من الأيدي العاملة الرخيصة الماهرة من دول جنوب شرق آسيا ودول شرق أوروبا، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية والغذائية البريطانية في سوق الاتحاد الأوروبي ما لم يتفق الطرفان على إعفائها من الرسوم الجمركية، والتي تصل إلى 43.7% على الألبان ومنتجاتها، و17.9% على الأسماك، و 27.5% على السكر والحلويات. كما سترتفع أيضا الرسوم الجمركية الأوروبية على الواردات الصناعية بما في ذلك السيارات والمعدات والأجهزة الكهربائية إلى أكثر من 11%، ومن جانب آخر فقد كانت الكلمة الطولى لشمال بريطانياً والتي تعتبر معقلاً تقليدياً لحزب العمال البريطاني في انتخابات ديسمبر 2019، والتي قلبت الطاولة على حزب العمال وقياداته، وساهم الشمال في فوز بوريس جونسون زعيم المحافظين في نهاية المطاف، مما جعله يُسارع الخطى بعيداً عن لندن هذه المرة، بل ويطلق الوعود بالاهتمام أكثر من ذي قبل بالنصف الشمالي من بريطانيا، والذي يقطنه أقل من 40% من إجمالي عدد سكان البلاد، وقد أشار جونسون صراحة إلى العمل على تحفيز الاقتصاد البريطاني من خلال إطلاق حزمة من البرامج والآليات استناداً إلى مزايا بريطانيا التنافسية ومن بينها إطلاق عدد من المناطق الحرة في موانئ شرق وغرب انجلترا، ولسائل أن يسأل عن ما هي المناطق الحرة وأنواعها ومزاياها والفائدة المرجوة منها؟
قبل الخوض في ماهية المناطق الحرة وأنواعها وأسباب نشوئها رأيت من الضرورة أن أشير ودون الخوض في أي تفاصيل لبعض المفاهيم ذات العلاقة وهي: الموقع والموضع والجغرافيا، فالموقع هو المكان والعائد منه، والمستفيد من كل ما يحيط به، أما الموضع فهو الحيزالمكاني الذي يتم شغله ويتم تحديده بخطوط الطول والعرض، في حين أن الجغرافيا تعني حسن اختيار (تحديد) الموقع أو المواقع، وبالتالي يُمكن تحويل الموضع إلى موقع، مع الأخذ في الاعتبار أن كل المواضع قد لا تصلح أن تكون مواقع، كما أود الإشارة أيضاً إلى الفرق بين مصطلحي مناطق التجارة الحرة والاتحادات الجمركية على الرغم من أن كلا من مناطق التجارة الحرة والاتحادات الجمركية تعملان على خفض أو إزالة العوائق أمام التجارة، والمتمثلة في: التعريفات الجمركية، وتحديد نسب / كميات الواردات، والضرائب التي ترفع بدورها من التكلفة النهائية للسلع، وكل هذا يجعلها في نهاية المطاف أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق المعنية، كما يُمكنها من خلق قيمة مضافة لاقتصاداتها الوطنية، فمنطقة التجارة الحرة هي أوسع نطاقًا من الاتحاد الجمركي، كما أنها أكبر منه من حيث القدرة على تعزيز النشاط التجاري بين البلدان، والاتحاد الجمركي لا يعدو كونه أكثر من اتفاق بين دولتين أو مجموعة دول بهدف تطبيق التعريفات والمعاييرعلى السلع، فعلى سبيل المثال: إذا ما دخلت أي سلعة إلى دولة ثم تم عبورها Transit إلى دولة أخرى فإنها لن تخضع لسداد أي رسوم، وخير مثال نستدل به على المناطق الحرة هي: المنطقة الحرة بجبل علي في الإمارات، ودولة سنغافورة الصغيرة المساحة الكبيرة الاقتصاد، والتي تُعد أكبر مجمع عالمي لإعادة التصدير Hub، في حين يُعد الاتحاد الأوروبي بأعضائه السبعة والعشرين كأكبر اتحاد جمركي في العالم.
تعتبر المناطق الحرة أحد الوسائل الاقتصادية التي تستخدمها الدول بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز استثماراتها المحلية والذي يعود عليها بفوائد شتى، و قد ارتبط ظهور المناطق الحرة بتوسع حركة التجارة منذ القدم، حيث توسعت الأنشطة التجارية وتعددت أشكالها وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية، وفي حقيقة الأمر أن فكرة المناطق الحرة قد برزت منذ القدم، وتطورت عبر الزمن لتأخد عدة أشكال وأنواع، وأشارت كل الدراسات إلى أن المناطق الحرة ظهرت في زمن الإمبراطورية الرومانية في صورة موانئ حرة أي منذ ما يزيد عن ألفي عام، كما تشير بعض الدراسات إلى أن أول منطقة تجارة حرة قد ظهرت للوجود كانت بالتحديد في العام 166 قبل الميلاد في جزيرة ديلوس اليونانية الصغيرة في بحر إيجا بهدف وضع حد لهيمنة جزيرة رودوس على التجارة في البحر الأبيض المتوسط، حيث تميزت هذه الجزيرة بنظام تجاري خاص تمثل في خفض الرسوم والضرائب التي كانت تفرض على التجار والسفن العابرة إلى مناطق أخرى من الإمبراطورية الرومانية أو غيرها من الدول، وبذلك أصبحت مركزاً تجارياً مشهوراً في تلك الحقبة، أما في يومنا الحاضر فأغلب الدراسات تشير إلى أن أول منطقة حرة ظهرت في القرن العشرين كانت في مدينة شانون بإيرلندا وذلك بعد الحرب العالمية الثانية بسنوات، وبالتحديد في العام 1959م ، وبمرور السنوات بلغ عدد المناطق الحرة بكل أنواعها ونشاطاتها المتنوعة حول العالم ما يزيد عن 5400 منطقة.
نُشرت العديد من الدراسات والمراجع عن المناطق الحرة، ونتج عن ذلك النشر تعدد المفاهيم وتباين النتائج وإلى حد تداخلها في بعض الأحيان، ومن بين عدد كبير من التعاريف والمفاهيم فإنني أرى أنه من بين أفضل التعاريف الاصطلاحية للمناطق الحرة هو الذي ينص على “كونها جزء من أرض الدولة ويقع في الغالب على أحد منافذها البحرية أو البرية أو الجوية أو بالقرب منها، ويتم تحديده بالأسوار وعزله عن باقي أجزاء الدولة، ويخضع في الغالب لقوانين خاصة معينة في ظل السيادة الكاملة عليها”، في حين أشارت دراسة عن تقييم المناطق الحرة صدرت عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (( الإسكو )) عام 2001 إلى تعريف المناطق الحرة بأنها “تلك المناطق سواء كانت معزولة أو غير معزولة والتي تقع ضمن السياج الجمركي، أو أنها مناطق معزولة تقع ضمن ميناء وتستفيد من إعفاءات من الرسوم الجمركية وبعض الرسوم الأخرى، وبذلك فهي تقع خارج النطاق الجمركي للدولة مما يجعلها تستخدم لتخزين البضائع العابرة، مع الحفاظ على مخزون البضائع للتوزيع، وضمان تأخير دفع رسوم الاستيراد عليها، أو أن تقلل من دفع الضرائب غير المباشرة على أنواع أخرى من الأنشطة التي تتم فيها”، كما أن هناك تعريفاً آخر أعتبره شافيًا، والذي ينص على أن ” المنطقة الحرة هي عبارة عن مساحة جغرافية من إقليم الدولة المضيفة تخضع لسيادتها الكاملة، ويتم تحديدها على المنافذ البرية أو البحرية أو الجوية للدولة أو بجوارها أو في أي أقاليم أخرى من الدولة، بل وتعزل عن بقية أجزائها، ويجري فيها تنظيم الأنشطة الاستثمارية بقواعد قانونية واقتصادية وإجرائية خاصة أو (استثنائية) دون التقيد بكميات أو أوزان أو أحجام محددة بهدف جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية للدولة المضيفة، والذي يصب في خانة خلق قيمة مضافة حقيقية لاقتصادها”.
أهداف إنشاء المناطق الحرة
من بين عدد من المناطق الحرة في الدول النامية أعتبر أن المنطقة الحرة بجبل علي بدولة الإمارات العربية المتحدة هي منطقة حرة بكل ما للكلمة من معنى، وقد حققت مع باقي مكونات الاقتصاد الأزرق لإمارة دبي الهدف المنشود منها، حيث حققت هذه المكونات مجتمعة ما نسبته 30% من إجمالي ايرادات إمارة دبي خلال العام 2018، وفي الأثناء لا يفوتني أن أشير إلى الدور الذي تلعبه موانئ جيبوتي (رغم أن بعضها لازال قيد الإنشاء) وأرى أنها ستكون رائدة ومهمة جداً في المدى المتوسط والبعيد، كما أن موانئ سلطنة عُمان وميناء طنجة المتوسط والمنطقة الحرة لقناة السويس تسعى بلا كلل في دعم اقتصادات بلدانها، وبالعودة إلى فكرة إنشاء المناطق الحرة في حد ذاتها نجد أن هناك عدداً من المقومات التي تحتاجها أي دولة لإنشاء منطقة / مناطق حرة مهما كان نوعها: كالمقومات السياسية والأمنية، والمقومات التشريعية، والمقومات البشرية (رأس المال البشري)، بالإضافة إلى المقومات الجغرافية والبيئية، كما أن هناك عدداً من الأسباب تقف هي الأخرى وراء إنشائها.
نشرت منظمة الأمم المتحدة في العام 1985 الأهداف الأكثر أهمية للمناطق الحرة، ولخصتها في كون أنها مصدر إضافي / جديد للعملات الأجنبية، وأنها تُسهم في خلق فرص عمل جديدة، وأن الفكرة من وراء إنشائها تكمن في السعي لجذب رأس المال الأجنبي إلى الدول المضيفة، وأنها تعمل على جذب التكنولوجيا المتطورة، وبالتالي اكتساب مهارات جديدة لأبناء الدول المضيفة، لتنتهي بخلق روابط بين الاقتصاد المحلي والصناعات والخدمات بالمناطق الحرة، وفي كل الأحوال تسعى الدول من وراء إنشاء المناطق الحرة لتحقيق واحد أو أكثر من الأهداف التالية:
- جذب وتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية على حد سواء.
- يتم من خلال جذب وتشجيع رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية تحقيق تنمية اقتصادية، وذلك من خلال إقامة مشاريع البنى الأساسية، وتوفير التسهيلات الخدمية.
- زيادة حركة التبادل التجاري وزيادة حجم الصادرات، وتوفير مصادر جديدة لدعم الاقتصاد الوطني، وتنويع مصادر الدخل للبلد المضيف.
- إدخال علوم وتقنيات حديثة.
- خلق فرص عمل جديدة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة.
- تنمية مهارات الأيدي العاملة الحالية في البلد المضيف.
- استغلال المزايا النسبية للدولة المضيفة حتى ولو كانت هذه المزايا آنية.
- تنشيط القطاعات وبالأخص قطاع الخدمات (خدمات مالية – بنوك وتأمينات، خدمات لوجستية – نقل وتخزين واتصالات) حيث يزداد الطلب على هذه الأنواع من الخدمات في المناطق الحرة عن غيرها من المناطق في البلد المضيف.
- تساهم بعض أنواع المناطق الحرة في إعادة توزيع السكان جغرافياً وذلك للحد من مشكلة الضغط السكاني المتركز في بعض المدن الكبيرة، كما تسهم في تعمير وتنمية بعض الجهات والأقاليم أو زيادة النمو الحضري لبعض الجهات المتخلفة نسبيا من أجل إيجاد نوع من التوازن الاجتماعي والاقتصادي بينها وبين الأقاليم الأخرى.
- زيادة الناتج المحلي، والمساهمة في سد الفجوة بين الادخار والاستثمار.
- إيجاد أسواق جديدة للصناعات المحلية.
أنواع المناطق الحرة
من بين أهم أشكال مناطق التجارة الحرة الشائعة اليوم هو منطقة تجهيز الصادرات، أو المنطقة الاقتصادية الخاصة والتي تنتشر في 147 دولة حول العالم، وهذا النوع من النشاط الاقتصادي يراه الخبراء أنه الخيار الأفضل للبلدان النامية، والتي تسعى لإقامة نهضة اقتصادية، والذي قد يجعل منها دولة عبور بل وجزءًا من سلسلة الإمداد العالمية Global Supply Chain ، وبالتالي وعطفاً على كل ما تقدم من سرد فإنه يتضح مدى تشعب وتنوع المناطق الحرة، وإن كان يقع أغلبها ضمن حدود أو حواف أو منافذ الدول كالموانئ والمطارات والمنافذ البرية، إلا أنه ومع التقدم البشري، وتسارع وتيرة التطور في قطاع الخدمات على حساب قطاعي الصناعة والزراعة ، ومع دخولنا لعصر الثورة الصناعية الرابعة فإن أنواع المناطق الحرة قد تأخذ شكلاً من الأشكال الآتية:-
-1 المناطق الحرة بالموانئ البحرية.
-2 المناطق الحرة بالمطارات.
3- المناطق المصرفية الحرة.
4- المناطق الصناعية والعلمية.
5- مناطق إعادة التصديرالتجارية الحرة.
6- المناطق الحرة بالمنافذ البرية.
7- مناطق إعادة التصدير الصناعية الحرة.
8- مناطق إعادة التصدير الزراعية الحرة.
9- مناطق التخزين والإيداع الجمركي.
10- مناطق التجارة العابرة الخاصة والعامة.
11- المدن الحرة.
12- النقاط الحرة.
13- المناطق الحرة للتأمينات.
14- المناطق العلاجية الحرة.
يتبع …