Skip to main content
بعرة يكتب مقالاً بعنوان "من أين لهم هذا"؟
|

بعرة يكتب مقالاً بعنوان “من أين لهم هذا”؟

كتب: الخبير القانوني “طه بعرة “

سؤال يتردد في أذهان السواد الأعظم من المواطنين الليبيين والأجانب كذلك، وكل من سنحت له الفرصة للاطلاع على حساب مصرفي أو عقار سكني أو سيارة خرافية او مزرعة اسطورية، خاصة وإن كانت غير متكافئة مع التكوين التاريخي والعمري والعلمي والعملي لمالكها.

سؤال استنبط منه قانون شرع في عدة دول عربية، أسموه بكل بساطه قانون من أين لك هذه الأموال الخيالية؟ لأنه يمنح صلاحيات وسلطات واسعة لجهات إنفاذ القوانين الجنائية، تخولها أن تطرح هذا السؤال الصعب بكل بساطة و أرياحية، على كل من إكتسب مالاً أو منفعة أو مزية، بطريقة بعيدة عن المشروعية، بالمحاباة أو التهديد أو مخالفة القوانين الوضعية، أو إساءة استعمال السلطات الوظيفية، أو المهنية أو المكانية، أو كان مصدر أمواله مجهولاً ولا يتناسب مع موارده المنطقية.

نعم،، مئات الألوف وعشرات ومئات الملايين من الدينارات الليبية والدولارات الامريكية، تودع في الحسابات المصرفية، لدى أصحاب المداخيل القزمية، والأعمار الدونية، والمؤهلات الوهمية، ولا يسألون عن تفسير هذه الأحجية! رغم تناثر الأجهزة الأمنية! فكيف لا نسأل من أين لهم هذا؟

قانونيون ولائحة لمكافحة جرائم غسيل الأموال، وقانون للمصارف وتعديلات، وقانون للجرائم العامة والعقوبات، وقانون للتطهير، وقانون لتحريم الوساطة والمحسوبية، وقانون للجرائم الإقتصادية، وقانون من أين لك هذا،، ولا أحد يجرؤ على السؤال من أين لهم هذا؟

نيابات عامة، وديوان للمحاسبة، وهيئة للرقابة الإدارية، وهيئة وطنية لمكافحة الفساد، ووحدة للمعلومات المالية المصرفية، ومكتب للشرطة الجنائية العربية وآخر للشرطة الجنائية الدولية، وقسم للمباحث الجنائية، ومؤسسات عقابية وتأهيلية،، ولا أحد يسأل من أين لهم هذا؟

تودع الأموال لدى القنوات الرسمية وتقفز لأسواق العملة غير الرسمية، وتحدث طفرة في الأسعار العقارية، وتعبر الحدود الوطنية، إلى العواصم الأجنبية،، ولا تجرؤ المصارف إلا على عد النقدية وإرسال الرسائل النصية! ولا تسأل من أين لهم هذا؟

تقارير فسادنا الدولية على الشبكة العنكبوتية، وتصريحات مبعوثي الهيئة الأممية، والتعامل المهين مع حاملي الجنسية الليبية لدى البنوك الأجنبية، جميعها تشي بفضاعتنا الإجرامية وفضائحنا المالية، ومع هذا لا نسأل من أين لهم هذا؟ تساءلت في مقالي السابق الذي كان بعنوان (جبهة موحدة لمحاربة الفساد في ليبيا)، إن كنا ننتظر أن تفرغ الخزائن حتى نبدأ في مكافحة الفساد؟ أو ننتظر ولادة دولة قانون من رحم الفساد؟ أم ننتظر فساد ما تبقى من صلاح؟

إذا كانت جميع الأجهزة المعنية والتي تمول من صندوق الميزانية، قد عجزت عن طرح الأسئلة القانونية، فلماذا لازلنا ننفق عليهم من أبواب الميزانية؟ أم أن للفساد مفاهيم آخرى إجتماعية أو سياسية؟ لأني قرأت ذات يوم مقال ساخر عن الفساد، سرد الكاتب فيه سؤالاً مفاده: هل وجود هيئة لمكافحة الفساد يدل على حرصنا على مكافحته، أم أنه اعتراف بأن الفساد قد انتشر لدرجة يتوجب معها إنشاء هيئة له؟ هل العائق من طرح السؤال تشريعي في القانون؟ أم تنفيذي في الحكومة؟ أو قضائي في المحكمة؟ أم إجتماعي في فهمنا لمكنون الفساد؟

إذا ما لاحظنا تشريعياً بأن المشرع الليبي سن كل الترسانة السابقة من القوانين، وكان بين الحين والآخر يدخل التعديلات عليها فيلغي بعض نصوصها ويعدل بعضها ويضع آخرى جديدة، بدءً من قانون العقوبات العام لسنة 1953 الذي كافح فيه الجريمة عموماً وعلى المال العام خصوصاً وبشكل مفصل، ثم أصدر القانون رقم 3 لسنة 1970 بشأن الكسب الحرام، الذي ألزم فيه موظفي الدولة وخاصةً أصحاب المناصب العليا على تقديم إقرارات الذمة المالية عند بداية التعيين وعند انتهاء الوظيفة، ثم القانون رقم 3 لسنة 1986 بشأن من أين لك هذا، الذي نص فيه على عقوبات جنائية ورد للاموال المتحصلة من الكسب غير المشروع، ثم القانون رقم 10 لسنة 1994 بشأن التطهير الذي اعاد من خلاله تنظيم الكسب الحرام بطريقة أكثر تفصيلاً .

هذا حتى وعقب تغير النظام في العام 2011 ومباشرة المشرع في مراجعة وتهذيب المنظومة التشريعية، لم يسن نصاً واحداً يشير إلى إلغاء التشريعات السابقة، وإنما عزز وجودها بالقانون رقم 63 لسنة 2012 بشأن إنشاء هيئة مكافحة الفساد الملغي، والذي نص فيه على أن إختصاص الهيئة يسري على الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 10 لسنة 1994 بشأن التطهير، ثم أصدر القانون رقم 11 لسنة 2014 على بشأن انشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والذي نص فيه على أن تباشر الهيئة إختصاصها على الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 10 لسنة 1994 بشأن التطهير، وهو ما يعني بأن المشرع قد ضاعف الحماية الجنائية للمال العام الليبي من خلال هذه المنظومة القانونية، التي أوكل تنفيذها بطبيعة الحال إلى الحلقة الثانية وهو التنفيذية، لتقوم بدورها في منع إرتكاب الجريمة وكشفها وضبطها وإحالة مرتكبيها للحلقة الثالثة ألا وهي القضائية، والتي يتعين عليها أن تحاكم مرتكبيها وتنزل بهم العقوبات الكفيلة بتحقيق ردع عام وخاص، يحول دون إعادة إرتكابها ويسترد المتحصل منها.

إذن لماذا السلطة التنفيذية أو بالآحرى أجهزة إنفاذ القوانين الوضعية، لا تسأل تلك الأسئلة الاستفهامية؟ قرأت مقالاً قديماً لطالب سوداني الجنسية، استلهمه من تجربته الشخصية مع صديقته العجوز الإنجليزية، التي كان يمر على محلها يومياً ليثرثر معها ويشتري منها ألواح الشكلاطة بمبلغ 18 بنساً، فقال ذات مرة لمحت بأن ذات الشكلاطة مرصوصة إلى جانب بعضها في ذات الرف وبسعرين مختفلين، الأول 18 بنساً والثاني 20 بنس.

فسأل العجوز قائلاً اليوم أرى عندك نوعا جديداً؟ فأجابته في اقتضاب بأنه نفس النوع ، فواصل متسائلاً إذن وزن وحجم جديديْن؟ فأجابت بأنه نفس الوزن والحجم،دهش وسألها لماذا هناك سعران لذات المنتج؟ فأجابته بأن الشركة المصنعة تواجه مشكلة مع مع مصدر الكاكاو بنيجيريا وهذا هو الثمن الجديد.

عندها قال لها من سيشتري منك بالسعر الأعلى، ولماذا تنتظرين نفاذ كمية السعر الأقل! لماذا لا تخلطين النوعـين معاً وتبيعين بالسعر الجديد الأعلى؟ قال هنا جحظت عيون صديقتي، ثم مالت نحوي وهمست في فزع هل أنت حرامي؟؟ تمنى الطالب لو انشقت الأرض وابتلعته بأفكاره الفاسدة وفهمه المعوج وذكائه المصطنع.

مكافحة الفساد المحترفة علم وثقافة وأخلاق، تتم عبر استراتيجية موحدة تنتهجها الدولة وتتشكابك لتحقيق أهدافها جميع مؤسساتها، ولكن قبل كل ذلك يلزمها إرادة حقيقية وهمم غير فاسدة وأجهزة نوعية، تسد منابع الفساد الاقتصادية، وتقتص من مجرميه بحرفيه، وتعيد أموال الشعب من الحسابات المصرفية والأملاك العقارية.

مشاركة الخبر