حبارات يكتب: الأسباب المباشرة لأزمة ليبيا الاقتصادية

234

كتب: نورالدين حبارات المهتم بشأن الاقتصادي مقالاً

لا يختلف اثنان على إن الاقتصاد الليبي ما قبل 2011 م كان اقتصاد ضعيف هش و ريعي غير متنوع و ذلك لأسباب عدة لا نريد الخوض في تفاصيلها لإنها ليست محور موضوعنا .

و لكن و في نفس الوقت لا يختلف أثنان على إن هذا الاقتصاد كان مهيئ للتطور و اللحاق باقتصاديات دول عدة كالدول الخليجية و ذلك بالنظر إلى المؤشرات الاقتصادية والمالية الإيجابية التي سجلها مع نهاية العام 2010 م حيث معدلات إنتاج النفط ناهزت إلى ما يقارب من 1.600 مليون برميل يومياً والأسعار أستقرت فوق حاجز 125 دولار للبرميل وحصيلة الإيرادات السيادية من ضرائب وجمارك و رسوم خدمات كانت تمول ما نسبته ‎%‎70 من الميزانية التسييرية كما إن العجز في الميزانية غير مسموح به فالمبدأ المتبع هو مبداء توازن الميزانية ، ولذلك فالدين العام كان محدود جداً و لم يكن دين مصرفي لغرض تمويل الميزانية بل كان يثمثل أغلبه في الإلتزامات المالية المستحقة لصالح صندوق الضمان الإجتماعي على الخزانة العامة .

هذا كما إن هناك عوامل أخرى مهمة ساهمت في تحقيق تلك المؤشرات الإيجابية أبرزها .
1- حالة الإستقرار العام التي شهدتها البلاد أنداك
2- الإلتزام وإلى حداً ما بالتشريعات المالية النافذة أثناء تنفيذ الميزانية فالصرف لا يتم إلا بعد إعتماد قانون الميزانية أو الصرف على أساس 1/12 في حال تأخرها فضلاً عن الإلتزام بالضوابط المتعلقة بتنفيذ الميزانية بشأن تجنيب أي زيادة في الإيرادات النفطية عن الإيرادات المعتمدة ، فهذه الايرادات تقدر عادةً عند حدودها الدنيا و مازاد عنها يؤول إلى حساب الإحتياطي العام أو ( المجنب ) كما يتم تخصيص ما نسبته ‎%‎05 من إجمالي تلك الإيرادات لسداد أقساط الدين العام.

3- تخصيص أكثر من ‎%‎50 من مخصصات الميزانية للتنمية رغم ضعف أليات تنفيذها و الفساد الذي عادةً ما يعتريها
4- عدم نشأة او ترتيب الإلتزامات المالية إلا بترخيص من لسلطة المختصة وإن كان أحياناً بتم تجاوز ذلك .

5- الطفرة النفطية الكبيرة التي شهدتها أسعار النفط بعد التوتر الذي حدث في منطقة الخليج بسبب الغزو الأمريكي للعراق في 2003 م ورفع العقوبات الامريكية على ليبيا و تطبيع العلاقات البلومايبة رسمياًمعها في 2006 م .

غير إنه في 2012 و مع تشكيل أول حكومة إنتقالية ( حكومة الكيب ) كان يتوقع الكثير من الليبيين أن تقوم هذه الحكومة بمراجعات للسياسات الاقتصادية والمالية السابقة تسمح بإجراء إصلاحات اقتصادية حقيقية خاصةً وإن الظروف كانت في هذا العام (2012 ) الأفضل نسبياً ، فمثلاً كان من الممكن أصلاح سعر الصرف الرسمي للدينار من 1.30 إلى 2.50 دينار للدولار تزامناً مع قرار زيادة أو مضاعفة المرتبات رقم 27 لسنة 2011 م ، كما إنه كان من الممكن إجراء رفع تدريجي لدعم الوقود مثلاً من 150 درهم للتر البنزين إلى 330 درهم ، وفي الجانب الأخر كان يفترض ضبط الإنفاق العام وتوجيه معظمه للتنمية وتنشيط أليات الجباية للإيرادات عبر تفعيل تحصيل رسوم الخدمات والضرائب القائمة أو فرض ضرائب جديدة تصاعدية وبما يكفل تحقيق العدالة الإجتماعية ، كما إنه كان من الممكن إصلاح الجهاز الاداري المترهل وأعادة هيكلة الشركات العامة المتعثرة ووضع إستراتيجية لمحاربة الفساد والتهريب للحد منهما .

و لكن الغريب إنه وبدلاً أن تقوم الحكومة بكل ذلك كخطوة أولى لتطوير وإزدهار اقتصاد البلاد كما كان يتوقع المواطنين ، فإذا بها تنتهج سياسة غريبة جدلية قلبت فيها الأمور رأساً على عقب عبر التوسع الكبير وغير المبرر في الإنفاق العام الإداري وإهمال كامل للبرامج التنموية وللإيرادات السيادية من ضرائب وجمارك ورسوم بحيث أصبحت مشاركة هذه الإيرادات في تمويل الميزانية لا تدكر إلى جانب تعطيل لكافة تلك الضوابط المذكورة أعلاه و المتبعة في شأن تنفيذ الميزانية مما فتح المجال إلى إستنفاذ الأموال المجنبة وتنامي العجز في الميزانية وتفاقم الدين العام في الوقت الذي كان يفترض توجيه الإنفاق العام لأغراض التنمية ولزيادة الإسثتمارات في قطاع النفط بهدف رفع قدراته الإنتاجية وبما يسهم في زيادة الإيرادات العامة ، فإذا به تحول هدا المورد أيضاً أي النفط كورقة للصراع بين القوى السياسية ما أدى في النهاية إلى تعطيله لسنوات مسبباً خسائر كبيرة للإقتصاد خلفت أثار وتداعيات سيئة لا نهاية لها .

والغريب أيضاً المركزي ومن جانبه أنتهج نفس الألية أو السياسة الغريبة وذلك من خلال توسعه أو إفراطه في إستخدام النقد الأجنبي جله تقريباً يوجه لأغراض إستهلاكية وليس إنتاجية وبما يخدم اقتصاد البلاد و ذلك بدلاً من الحد منه عبر إعادة النظر في تخفيض قيمة الدينار أنداك ، فضلاً عن إقتراحه لقانون منع الفوائد المصرفية دون تفعيل نظام الصيرفة الأسلامية كبديل له ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع كبير في رصيد الإحتياطي الأجنبي وتفاقم العجز التراكمي في ميزان المدفوعات و تأكل القدرة الشرائية للدينار وإندلاع أزمة سيولة حادة .

ولم يتوقف مسلسل تدهور الاقتصاد عند هذا الحد بل زاد الأمر سؤاً بعد منتصف 2014 م مع إستمرار تعطل النفط والإنقسام السياسي الذي قسم البلاد إلى حكومتين بميزانيتين واحدة في غرب البلاد والأخرى في شرقها يتم صرفهما بدون قانون وذلك بعد أن تنصل مجلس النواب من مسؤولياته الدستورية في إقرار الميزانية وفي مراقبته للحكومة ومساءلته لها .

وكنتيجة لكل تلك السياسات والتراكمات على مدار قرابة عقد من الزمن وقعت البلاد في أزمة اقتصادية حقيقية ثمتلث تفاصيلها في إرتفاع الإنفاق العام وتراجع الايرادات العامة وتفاقم الدين العام وانخفاض واردات البلاد من النقد الأجنبي وتأكل القدرة الشرائية للدينار ولدخول المواطنين ناهيك عن إرتفاع معدلات البطالة وتدهور الخدمات وغياب التنمية .

وبدلاً من أن تقوم كل تلك الحكومات على مدار السنوات الماضية بالتعاطي مع الأزمة عبر تشخيصها جيداً للوقوف على أسبابها وإقتراح الحلول اللازمة والممكنة إزائها ترتكز على صياغة حل سياسي شامل، إعتمدت حلول تلفيقية مؤقتة كوسيلة وحيدة بهدف ترحيلها أو تأجيلها عبر تخفيض قيمة الدينار من فترة إلى أخرى و زيادة المرتبات أو تخفيضها أو إقتراح رفع الدعم وإستبداله.

والمؤسف الْيَوم إن حكومة الوحدة الوطنية تعيد نفس السيناريو حيث تنتهج سياسات توسعية في الإنفاق بدلاً من ترشيده والحد منه دون النظر إلى محدودية الإيرادات العامة ومسألة تنميتها وتنويعها ودون تعي أيضاً تداعياتها المستقبلية على الاقتصاد وعلى حياة المواطنين .