كتب: الخبير والمهتم بالشأن الاقتصادي” نورالدين حبارات” ( قراءة تحليلية قانونية مالية )
يواجه العالم اليوم أزمة وبائية غير مسبوقة عبر تاريخه وذلك بسبب تفشي وانتشار وباء كورونا الفتاك الذي أودى بحياة الآلاف من البشر بين قتيل ومصاب، وعصف بالاقتصاد العالمي الذي أصبح يترنح تحت وطأة الركود.
ونظرا لخطورة هذا الوباء فإن كافة دول العالم اتخدت العديد من الإجراءات والتدابير في مواجهته بهدف القضاء عليه أو الحد منه واحتوائه، فحكومات الدول المتقدمة بدأت في رصد وتخصيص الأموال والاعتمادات الإضافية لتوفير كافة المتطلبات والمستلزمات الطبية والضرورية لمواجهته وللوقاية منه، وبمؤازة ذلك بدأت في إجراء الأبحاث والتجارب العلمية لاكتشاف اللقاحات والعلاجات المضادة لهذا الفيروس، في حين انشغلت حكومات الدول النامية بتدبير الأموال والميزانيات الطارئة وفق ما تقتضيه تشريعاتها وقوانينها المحلية بهدف توفير كافة المتطلبات لمواجهته مع تكثيف البرامج والحملات التوعوية للوقاية من هذا الوباء.
وليبيا ليست ببعيدة أو اسثتناء من ذلك؛ فهي معرضة لهذا الوباء وعلى حكومتها اتخاذ كافة التدابير اللازمة إزاءه، كما أن المشرع الليبي لم يغفل تعاطي الحكومة ماليا مع هذه الحالات أو الظروف، فالمادة (13) فقرة (1) من قانون النظام المالي للدولة نصت صراحة على أنه (يجوز في حالة الضرورة وضع مشروع ميزانية اسثتنائية لأكثر من سنة تتضمن موارد ونفقات اسثتنائية )، كما حددت المادة (16) من القانون المذكور للحكومة ستة حسابات منفصلة منها حساب الاحتياطي العام وحساب الطوارئ تودع به الأموال التي تخصص لمواجهة الحالات الطارئة. ويقصد هنا بالحالات الاسثتنائية الحالات التي تتعرض فيها البلاد “لا قدر الله” لظروف غير عادية كالكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير وفيضانات أو في حالات انتشار الأوبئة والحروب جراء تعرضها لغزو خارجي وفي هذه الحالات يتم وضع مشروع ميزانية اسثتنائية منفصلة عن الميزانية العامة للدولة تمول من موارد استثنائية إما من خلال السحب من الاحتياطي العام أو من خلال القروض.
و لكن الأهم من كل ذلك هو ما تضمنته نصوص القانون رقم (127) لسنة 1970 بشأن تخصيص موارد للاحتياطي العام، حيث نصت المادة (2) منه صراحة على أنه (يخصص لحساب الاحتياطي العام حصة من دخل النفط في كل سنة لا تقل عن 15% وتحدد هذه النسبة سنويا من قبل مجلس الوزراء ويخصص ما لا يقل عن 70% من الباقي من دخل النفط بعد خصم ما يضاف منه إلى الاحتياطي العام لتمويل البرامج التنموية)، كما حددت المادة (3) المبالغ التي تؤول إلى حساب الاحتياطي العام والمتمثلة في الاعتمادات في الميزانية العامة التي لم يتم صرفها حتى نهاية السنة المقررة فيها هذه الاعتمادات كما تودع في هذا الحساب المبالغ التي لا يتم إنفاقها إلى نهاية سنوات الخطة من الاعتمادات المدرجة في ميزانية التحول، في حين أجازت المادة (4) السحب من حساب الاحتياطي العام لمواجهة حالة مفاجئة لا تستحمل التأخير طرأت بعد إقرار الميزانية ولا تكفي لمواجهتها المبالغ المدرجة فيها بحساب الطوارئ شريطة ألا تتجاوز المبالغ المسحوبة خلال السنة المالية 10% من رصيد الاحتياطي العام على أن يتم السحب بقرار من مجلس الوزراء بناء على عرض من وزير الخزانة يحدد فيه المبالغ المسحوبة وتاريخ ردها على ألا يتجاوز هذا الميعاد نهاية السنة المالية التي سحبت خلالها.
وبالإمعان في نصوص تلك المواد يتبين لنا الغاية والأهداف السامية التي يتوخاها المشرع من هذا القانون فهو يولي أهمية كبيرة جدا لحساب الاحتياطي العام وما يعزز ذلك الضوابط والاشتراطات الصارمة التي تضمنتها المادة (4) والتي تكفل استدامة ونمو الاحتياطي العام وعدم تآكله، غير أنه في عام 1993 صدرت تعليمات أو بالأحرى توجيهات من أعلى سلطة آنداك تقضي بتجنيب قيمة الزيادة في الإيرادات النفطية الفعلية عن المقدر لها في الميزانية وإيداعها في حساب يعرف بحساب المجنب الذي فتح خصيصا لهذا الغرض وحددت الضوابط بشأن هذا الحساب وأن الهدف منه هو تكوين احتياطي للأجيال القادمة ما يعني بذلك عمليا تجميد قانون الاحتياطي العام المذكور أعلاه دون المساس به رسميا إما بالتعديل أو بالإلغاء.
ونظرا للإجراءات والضوابط التي أتبعتها اللجنة الشعبية العامة سابقا وذلك في إطار ما يعرف بسياسة الانضباط المالي والتي ارتكزت أصلا على التقيد بقانون النظام المالي واللوائح الصادرة بمقتضاه وعلى أسس وقواعد الميزانية العامة المتعارف عليها كقاعدة التوازن فالإنفاق العام يجب أن يكون في حدود الإيرادات المعتمدة ولا يتجاوزها، أي العجز في الميزانية غير مسموح والديْن العام يتم استهلاكه سنويا باستقطاع نسبة 5% من إجمالي الإيرادات النفطية عند المنبع بهدف إطفائه والسيطرة عليه، وقد كان لها ذلك، فنسبة الديْن العام كانت لا تمثل شيء من الناتج المحلي للبلاد، كما أن الإيرادات السيادية من ضرائب وجمارك ووسوم وفوائض شركات تساهم في تمويل ما نسبته 70% من نفقات التسيير ( المرتبات ونفقات الجهاز الإداري ونفقات الدعم ) وهذه النسبة كانت إلزامية في حين تمول النسبة المتبقية والمقدرة بـ 30% من الإيرادات النفطية، حيث تمول هذه الإيرادات بدورها ميزانية التنمية، وليس هذا فقط بل إن قاعدة سنوية الميزانية كانت متبعة وملزمة، فالسنة المالية تبدأ في 1/1 وتنتهي في 31/ 12 من كل عام والاعتمادات المالية التي لا يتم صرفها حتى نهاية السنة تلغى، أي تصفر وترجع البواقي إلى حساب الإيراد العام عملا بإحكام المادة (7) من القانون المذكور أعلاه وذلك لإعادة تبويبها كمصدر من مصادر تمويل الميزانية للسنة التالية كما أن التعلية أي نقل البواقي إلى حساب الأمانات بحجة وجود التزامات مالية لا تتم إلا في الحالات والضوابط التي حددها القانون.
وبالتأكيد ساهمت سياسة ما بعرف بالانضباط المالي إلى جانب الطفرة النفطية التي شهدتها أسواق النفط إبان حربيْ الخليج الأولى عام 1991 والثانية عام 2003 ساهمت في النمو المتزايد والمضطرد لحساب المجنب، مما دفع اللجنة الشعبية العامة سابقا باسثتمار جزء كبير منه يقدر بـ67 مليار دولار في صندوق الثروة السيادي للبلاد أو ما يعرف بالمؤسسة الليبية للاسثتمار والاحتفاظ بالجزء المتبقي الذي قدر في نهاية 2011 بمبلغ 28 مليار دينار لدى المصرف المركزي.
لكن مع مجئ أول حكومة انتقالية خلال 2012 (حكومة الكيب) والتي كان يتوقع منها أن تقوم بتطوير إدارة مالية الدولة من خلال إعادة توجيه الإنفاق وتنويع وتنشيط الإيرادات وتوفير المرونة لاتخاد الإجراءات والتدابير اللازمة في مواجهة الصدمات الطارئة عبر إعادة صياغة قانون للمجنب أو إعادة تفعيل قانون الاحتياطي العام، فبدلا من كل ذلك لجأت إلى سحب مبالغ مالية من حساب المجنب بقيمة 3 مليار دينار كميزانية اسثتنائية بحجة وجود ظروف طارئة رغم أن العام 2012 شهد استقرارًا يعتبر الأفضل منذ 2011 واعتمدت فيه ميزانية ضخمة تناهز 70 مليار دينار، وغادرت هذه الحكومة دون أن تعيد ذلك المبلغ إلى حسابه، لتأتي بعدها حكومة انتقالية ثانية ( حكومة زيدان ) حيث استمرت هذه الحكومة على نفس نهج سابقتها، فهذه الحكومة سحبت مبلغ 2.8 مليار دينار من الأموال المجنبة لصرفها في غير الأغراض المخصصة لها وذلك بصرفها على علاوة الأبناء تنفيذا لقرار برلمانها “المؤتمر الوطني العام”، لتبلغ اليوم مستحقات العلاوة المتراكمة قرابة 17 مليار دينار، كما قامت هذه الحكومة بسحب مبلغ 1.5 مليار دينار قيل حينها أنها منحة لأرباب الأسر لتغطية نفقات اللوازم المدرسية، وأيضا غادرت هذه الحكومة دون أن تعيد كل هذه المبالغ إلى حساب المجنب، في العام 2014 أتت حكومة الإنقاذ وفي ظل توقف تصدير النفط حينها لجأت إلى استنفاذ ما تبقى من الأموال المجنبة لتغطية العجز في الميزانية لذلك العام.
أما عند مجئ حكومة الوفاق في العام 2016؛ فهذه الحكومة لم تجد أمامها أموالا مجنبة أو احتياطيات ولم تفكر في إعادة تكوينها، فهي لم تفكر حتى في تنشيط وتنويع الإيرادات العامة ولم تأخد في حسبانها انهيار إيرادات النفط ليس بسبب توقف تصديره فحسب بل لاعتبارات هبوط أسعاره جراء انزلاق الاقتصاد العالمي في دائرة الركود، وفي المقابل لم تضع حدًّا لسياسة الإسراف والهدر التي لازمتها معتمدة في ذلك فقط على سلف المركزي في تمويل نشاطها وليتراكم على إثر ذلك الديْن العام، ولتقف اليوم هذه الحكومة عاجزة حتى على تمويل ترتيبات مالية بقيمة 38.5 مليار دينار، سيمول المركزي ما نسبته 70% منها بعد أن كانت تخطط لترتيبات بقيمة 55 مليار دينار، ولتجد نفسها في مأزق مالي حقيقي بسبب وباء كورونا الذي فاقم معاناتها والذي طال دول الجوار، فهي مطالبة باتخاد كافة التدابير اللازمة وتوفير وتسخير كافة الإمكانات الطبية والتقنية والمالية لمواطينها للوقاية منه ولكن كيف؟ فمركزها المالي ضعيف جدا ولا احتياطيات مالية لديها وإيراداتها شبه معدومة والديون أرهقتها واحتياطيها الأجنبي منهك وفي نزيفه المستمر اقترب من حدوده الأمنة.
والسؤال المهم هو كيف لحكومات تنفق وعلى مدار ثماني سنوات ميزانيات بقيمة 340 مليار دينار تقريبا يقابلها 220 مليار دولار في شكل مدفوعات بالنقد الأجنبي وليس لديها احتياطي عام وطوارئ تحمي به مواطينها في مثل هذه الأزمات وليس لديها أيضا احتياطي لأجيالها القادمة؟ .. كيف ذلك؟
واليوم لم يبقى أمام المواطنين إلا شيئين في مواجهة هذا الوباء هما التوعية والوقاية منه بالقدر الممكن والاستغفار والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالصلاة والدعاء، عسى أن يبعد عنا هذا الوباء والبلاء فبالتأكيد الله قريب ومجيب الدعوات.